- حصْرُ الشرع لاستخدام القوة في أضيق الحدود:
قد يتعرض الفرد لتهديد لا يمكنه معه انتظار تدخل المؤسسات المناط بها دفع الخطر عنه، لذلك كانت الشريعة أسبق لاستحداث مبدأ الاضطرار الملجئ أو الإلجاء أو الدفاع الشرعي عن النفس مع إباحة استخدام القوة، إنما بشرط ألا تستخدم إلا في أضيق الحدود وبشكل يتناسب وجنس الاعتداء وقوة خطورته. فالشريعة الإسلامية حددت حصريا شروط الإلجاء في:
* كون الخطر المداهم حقيقياً وحالا؛
* عدم وجود أية طريقة أخرى للتخلص من الخطر بغير استخدام القوة، أي عدم إمكانية اللجوء إلى السلطات والاحتماء بها، وأن يتوقف التخلص من الخطر على استخدام القوة؛
* أن يكون استخدام القوة متناسبا مع طبيعة ودرجة الخطر.
والضرورة الملجئة هنا تتمثل في الحرص على حماية الحياة الزواجية وضمان استمرارها. والتدابير المنصوص عليها، والتي قد تبرر القوة كآخر مخرج، لم تُجَزْ إلا لهذه الغاية، أي إنقاذ الحياة الزواجية. ومع ذلك فالآية لم تُشِرْ من قريب أو بعيد إلى أن الذي يجوز له ممارسة الضرب كعقاب للنشوز هو الزوج نفسه. بل يمكن أن يكون القاضي أو الولي أو أية هيأة أخرى هي التي تنفذ العقوبة درءً للنشوز وتفاديا لهدم الأسرة. ومعلوم أن الضرب، بوجه عام، لم تُبِحْهُ الشريعة إلا في أضيق الحدود.
2- التجاوز في استخدام القوة يعدُّ تعسفا في استعمال الحقّ: تجاوز استخدام الإنسان للحق يعتبر مجرد تعسف في استعماله، وهذا التجاوز يُحَوِّل المتعسفَ إلى إنسان عنيف لا مدافعٍ عن نفسه، ويعرضه للعقاب. وعلى فرض أن الزوج (بالنسبة لمن يعتبره مخوَّلا هذا الحق) لجأ للقوة تحت مبرر الضرورة الملجئة، فإنه في حالة تجاوز الحدود وعدم رعاية القيود المبينة أعلاه يصبح ظالما يستحق العقاب.
والشاهد على ما أسلفناه من قيود للضرورة الملجئة الآيات التالية:
* إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ سورة البقرة (2) - آية 126.
*...فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ سورة النحل (16) - آية 115
* ...فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ سورة الأنعام (6) - آية 145.
فالاضطرار الملجئ الذي يبيح المحظورات مشروط بعدم التجاوز والبغي (غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ). ومع أنه مبدأ عام في الشرع الإسلامي، فقد اشترطته بصريح العبارة الآية 34، لعى سبيل التأكيد (فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً).
بل جُعلَ آخر ما نزل من القرآن تأكيدٌ على هذه القواعد وتنبيهٌ من العدوان في استعمال الحق أو التوسع في الضرورة الملجئة: "…الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ سورة المائدة (5) - آية 3... و"غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ" (الجَنَفُ: الميل) أي من دون أن يميل المضطر للإِثْمٍ أو يبالغ بإفراط.
ومن هنا جاء قول الفقهاء: "ما أحله الله بشروط، فهو مُحَرَّمٌ وخارجٌ عن حدود الله إذا انتهت أو زالت تلك الشروط".
بل حتى في إجازة استعمال القوة لإثناء الزوجة عن السلوك الناشز، اجتهد الفقهاء كثيرا في بيان نوع وقوة وحجم التدبير المسموح به كما بينا. فقال بعضهم ما يسمح به لا يتجاوز.
3- انتفاء المشروعية عن الضرب إذا زال السبب المبرر: حتى في حالة نشوز المرأة، فإنه وبحسب الشرع يجب الكف عن الضرب -المباح بشروط وبضمانات- بمجرد زوال السبب لصريح الآية: "فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً".
وعليه، لا ينبغي للمؤسسة (أيا كانت) التي يسند إليها إيقاع الجزاء التقويمي أن تسيء استعمال حق التأديب، فتؤدب بدون داع أو بشكل يتجاوز الحد المسموح به وتمارس الضرب المبرح المؤذي للزوجة في وجهها أو أي عضو من أعضائها، فإذ زاد عن القدر اللازم كُيِّف الفعل اعتداءاً.
4- وبما أن القرآن يجب أن يفَسَّر بالقرآن نفسه، فقد بينا كيف أنه بالمقابلة بين آية النشوز وآية أخرى "تَحِلة يمين سيدنا أيوب" السالف ذكرها (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلا تَحْنَثْ..." ( سورة ص (38)، آية 44) يظهر لنا أن صنف الضرب المجاز شرعا لا يتجاوز حركة خفيفة يكون القصد منها التعبير عن الغضب وعدم الرضى على سلوك غير مقبول من الزوجة. فقد قال الله عز وجل:» وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا»: وبينا أنه بحسب المجامع اللغوية: الضِغْثُ هو ملء الكف من الشجرة والحشيش والشماريخ ونحو ذلك. وقال القرطبي الضغث عيدانٌ رطبةً، أو ما يجمع من شيء مثل حزمة الرطبة، بما لا يتجاوز ملء الكف من الشجر أو الحشيش والشماريخ ونحو ذلك مما قام على ساق. بمعنى أن الضرب بمثل هذه الأشياء الرطبة لا يؤذي في شيء، وإنما الغاية منه رمزية.
5- وبالرجوع إلى الآية 34 من سورة النساء، نجدها تميز بشكل واضح بين مستويات من النساء تبعا لقيامهن أو عدم قيامهن بواجباتهن على أحسن وجه، وفي ذلك بيان لمستواهن الخلقي والتربوي والاجتماعي:
* أرقى مرتبة وتحظى بها النساء الصالحات القانتات الحافظات للغيب القائمات على فروضهن وواجباتهن. وهؤلاء لا تليق بهن إلا المعاملة التي تحفظ كرامتهن، ولعل كل كلمة جارحة تسبب لهنَّ آلاما نفسية مبرحة، فأحرى العنف الجسدي أو الرمزي.
* مرتبة أقل لا تحفظ فيها الزوجة قواعد العشرة ولا الالتزامات التي تعهدت بها يوم قبلت الارتباط بالزوج الذي اختارته. وبذلك تكون ناشزاً، تستحق الجزاءات الممكنة، مع التفريد بحسب أخلاق النساء وقدرتهن على التفاعل مع الجزاء أو التدبير: بدءً بمن ينفع معها الوعظ ومرورا بباقي الأصناف من النساء والتي تقتضي معاملة تراتبية خاصة (هجر، حكمين...)، ووصولا إلى آخر صنف (وهو مجرد صنف من بين أربعة أو أكثر) لا تنفع معه إلا القوة. وهذا يصدق أيضا على الرجال بكل تأكيد.
3- ضرورة التمييز ببين العنف والقوة: فالعنف كما بينا ليس له من معنى سوى تجاوز الحد والغلظة والتعسف والخرق، وهو ضد الرفق. وأما القوة فمرادف للقدرة والمقدرة والأهلية والاستطاعة والطاقة. والغالب أن القوة تمارس كتدابير احترازية، وقائية، تصحيحية، تقويمية أو ردعية، يكون الغرض منها منع خطر حالٍّ أو الدفاع عن النفس... أي في أوجه مشروعة... وينبني على هذا التمييز القواعد التالية:
* عدم شرعية العنف: بعد تحديد المعنى الدقيق للعنف (الخرق والاعتداء...) لا يبقى من حاجة للبحث في شرعيته أو عدمها لثبوت رفضه جملة وبإجماع النظم والقوانين، سماوية كانت أم وضعية.
* لا يوجد عنف مشروع: لا ضير من التذكير بأنه لا يوجد شيء اسمه العنف المشروع. ذلك أن العنف أمر مرفوض لا يقره شرع ولا قانون، حتى نبحث له عن سند شرعي. وقد ظهر لنا بوضوح الفرق بين استخدام القوة والعنف.
* شرعية استخدام القوة هي غيرها في استخدام العنف: باستطلاع النصوص الشرعية والقانونية يظهر جليا أن استخدام القوة (تدابير تصحيحية) لا يجوز إلا عندما تدعو الحاجة الملجئة لـدفع خطر ما. وهذا الصنف من استخدام القوة لا يدخل في دائرة العنف إطلاقاً. أما إذا تجاوز الفرد أو الجماعة أو الدولة الحدود القانونية التي رسمها الشرع أو القانون الداخلي أو الدولي، فيُكَيَّفُ سلوكه عنفا. وبخروج هذا الاستخدام غير المقنن عن الخط المرسوم يكون الفعل مجرَّماً يجعل فاعله تحت طائلة العقاب.
* أنه إذا حصل ضرر أو إيذاء جراء "التأديب" المباح، حتى عند من يعتبرون الزوج مخولا ذلك، يوجب الضمان كما يقول بذلك الشافعي وأبو حنيفة والقرطبي المالكي .
* أن التأديب والتقويم بالضرب هو آخر العلاجات مع ما فيه من الكراهة التي ترفعه عند البعض إلى الحِرمة.
والحاصل أن الحالات التي يجوز فيها الضرب (كقوة لا كعنف) ضيقة جدا، وتنحصر في وضعية المرأة الناشز التي لا ينفع معها نصح ولا هجر. بمعنى أن الضرب تماما مثل الكي، آخر علاج لا يلجأ إليه إلا عند استعصاء الداء واستنفاذ كل الأدوية الممكنة.
لكن وللأسف الشديد فمجتمعاتنا تطفح بكل أشكال العنف، والضرب يمارس فيها بما لا رعاية فيه للشروط المنصوص عليها في القرآن، وكثيرا ما يُقْتَرَفُ من دون أدنى نشوز يبرره. لكن بما أن الأعراف تكرسه بل وتشجعه، فإن الفقه المتشبع بهذه الأعراف والذهنيات يجتهد في لَيِّ عنق الآية لاتخاذها كحجة على الجواز ولإخلاء الضمير من كل محاسبة... كما لا يتوانى الناس (العامي منهم والجاهل كما العارف) عن إشهارها (معزولة) في وجه كل من يتحفظ على الممارسات العنيفة، تماما كما يجتهد خصوم الإسلام من أجل اعتبار العنف لصيقا بالإسلام وركيزة أساسية فيه.
الموضوع : استعمال القوة من دون مبرر وبتعسف اعتداء المصدر : منتديات اضواء الاسلام الكاتب: atefbbs