كانت كغيرها من لياليه المقمرة ... أعلن فيها البدر المكتمل عن انتصاف شهره .. وكما هي عادته .. أو لنقل هوايته .. جلس وحيداً على شرفته التي أضحت صديقته الأكثر إخلاصاً .. وجلس ينقل ناظريه من جهة إلى أخرى .. يبحث عن أي عنصر تدب فيه الحياة .. لكي يشاركه همومه .. ويبثه أحزانه .
حاول جاهداً ولم يجد .. فكل معلم من معالم الحياة كان قد اختفى .. فالناس نيام منذ ساعات .. والأنوار خفتت إلا من عمود الإنارة الذي كان وحيداً يحارب ظلام الليل وحلكته .. اللهم وإلا من ضياء ذلك البدر وإخوته النجوم التي بدت وكأنها تؤانس وحشته ...
تذكر حين كان صغيراً .. في تلك الأيام كان ينام على سطح منزله الريفي الجميل .. يفترش الأرض .. وينظر إلى السماء بدهشة وانبهار .. في ذلك الوقت كان يرى السعادة تتجلى في تخيله للمستقبل .. فأحلامه كانت كبيرة ... وكان يستطيع من خلالها أن يسافر إلى أي مكان .. وأي زمان .. وينسى واقعه ويحلق بجناحي خياله إلى عالم رحب ... كان يحب تلك الأجواء ويعشقها .. ويرى في الليل أسراراً لا متناهية من الجمال والحميمية اللطيفة الأخاذة ...
كان يرى في سكون ذلك الليل حقائق تضمحل في ضجيج الحياة وصخبها .. ورغم أن الليل ارتبط بطريقة أو بأخرى في مخيلة البشر مع الرعب والخوف فإنه كان يرى في تلك القشعريرة الغريبة التي كانت تنتابه أثناء تلك اللحظات تآلفا بين المتناقضات .. فيتحد الخوف مع النشوة و التوجس مع المتعة .. والوحشة مع الأنس ..
فهو لم يكن يشعر بالوحدة .. فقد كان يرى في آلاف النجوم التي ملأت ساحة السماء أصدقاء لا يملون رفقته ولا يمل رفقتهم .. كان يحدثهم عن كل ما يجول في خاطره .. عن أفكار ربما لو حدث الناس فيها لاتهموه بالجنون أو السخافة .. أثناء ذلك الحديث العذب لم يكن بحاجة للتكلف أو المجاملة أو التملق و المسايرة .. كان يتصرف بكل عفوية .. يناجيهم بلغة لا يفهمها أحد إلا هو وهم .. لغة شفافة
صريحة .. لا أقنعة فيها ولا وجوه متعددة ..
وكان بين الفينة والأخرى ينظر إلى شرفات البيوت المجاورة ... ويتساءل في نفسه .. ترى كم هي زاخرة هذه البيوت بآلاف القصص ومئات الحوادث ... كم طوت هذه الأبنية بين جدرانها من قلب حزين .. وآخر سعيد .. وآخر حاقد .. وغيره حاسد ... كم سترت هذه المساكن من أسرار لا يعلمها إلا الله ...
كل هذه الأسرار اختلفت في مضامينها ولكن القاسم المشترك بينها أن كل ما فيها من جدليات نام مع هذا الليل .. وهدأ وسكن .. في تلك اللحظة بالذات ..لمع في خاطره تساؤل ... ترى ... لو بقي الناس نياماً على هذه الشاكلة .. ألم يكن هذا الكون على أفضل حال وأتم تقويم .. ثم حول تساؤله ليصبح أكثر واقعية فقال لنفسه متداركاً .. لو جلس كل منهم جلستي هذه وحيداً واختلى مع نفسه ولو لدقائق ..
وتأمل في سكون الليل وصفاءه ألم يكن ليدرك أن هذه الدنيا ما هي إلا متاع زائل .. وأنها أقل من أن تستحق كل هذا التهافت .. وأن هناك يوماً سيأتي وينام الجميع نيمة أخيرة .. وتسكن الأرض سكونها النهائي .. ويصبح كل هذا المتاع سراباً في سراب ... حينها .. لن يبق من كل هذا الضجيج إلا ما كان لله ..
كل هذه المعاني كانت تدور في رأسه وهو ما زال طفلاً .. لا يدرك عن الحياة سوى ذلك الجانب المشرق الذي كان يراه في ابتسامة والدته .. وحنان والده .. وتراتيل الآيات القرآنية التي كان يصغي إليها في شغف من إمام المسجد القريب من داره .. وها هو الآن وقد أصبح شاباً راشداً كما تصفه المعايير الإنسانية .. بأن كل من تجاوز الثامنة عشرة من عمره فقد بلغ سن الرشد .. ولكنه في تلك الساعة عبر عن سخطه ..
نعم ... سخطه ... لأنه كان يرى في ابن الاثنتي عشر سنة من هو أرشد من هذا الشاب الذي أبت الحياة إلا أن تلطخه بسوادها .. أليس من الظلم إقرار هذا التصنيف الجائر ..
وفجأة ... أفاق صاحبنا من شروده ليرى الشمس وقد أطلت بنورها على الوجود .. وها هي بوادر الحياة تعلن عن نفسها بصوت بائع الكعك المتجول الذي كان أول من توجه إلى عمله ..
هنا لملم أفكاره .. وتوجه من جديد ليصارع الحياة لكل آلامهما وآمالها .. متسلحاً بالعزيمة والإرادة ... والرغبة الجامحة في أن يخبر الناس جميعاً بأنهم قد يجدون في سواد الليل و ظلمته من الأنوار ما لا يجدونه في شمس النهار ... وأنهم قد يتعلمون من النجوم .. ما لا تجود به عليهم أمهات العلوم ... بقدرة الحي القيوم .. الذي قال في كتابه العزيز :
((إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب)) ..
الموضوع : عندما اتخذ الليل صديقا... المصدر : منتديات اضواء الاسلام الكاتب: أميرة