[b]ما أحوجنا اليوم أن نقف وقفة تقييم شاملة للتفكير
بإستراتجية فلسطينية تأخذ بعين الاعتبار الواقع الرديء الذي لا يتوافق مع
طموحاتنا داخلياً وخارجياً، فنحن بحاجة إلى تثبيت هويتنا الوطنية والحفاظ
على تطلعات شعبنا وحقوقه المشروعة فما يجري يحتاج إلى عقل بارد يعلو عن
الانفعالات والشعارات لأن الحل الاستراتيجي ليس اليوم وليس بالقريب وما
يجري اليوم من استباحة أراضي الضفة وتواصل بناء جدار الفصل العنصري وتوسيع
المستوطنات وتحويل قطاع غزة إلى سجن كبير بعد تطبيق ما سمي بالانفصال
أحادي الجانب، وحصار وشلل السلطة وضعف المعارضة، يحتاج من الجميع إلى
تفكير في ترتيب المجتمع باتجاه ما ينشده الشعب الفلسطيني من طموحات كبيرة
تبدأ بإزالة الاحتلال وتحقيق كيان الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة والتي
باتت تتطلب شروط داخلية كبيرة تبدأ بتوافق وطني شامل وبإصلاح وترميم
ديمقراطي لأوضاع السلطة والمعارضة والمجتمع المدني ومحاربة الفساد وحل
مشاكل الفقر والبطالة وبث سيادة القانون وضمان مبادئ المساواة والعدالة
الاجتماعية.
وفي إطار الجدل الدائر والاجتهادات والصراعات السياسية
والاجتماعية والاقتصادية القائمة اليوم يغيب وبشكل صارخ النقد لما جري
ويجري في ساحتنا وحياتنا ويغيب عنا بان النقد أساس الإبداع .. وملح
الحضارة، و أساس التحول، فهو ما نتعلمه من الحياة .. نرجف حين نسمعه أو
نعنف حين نمارسه، فقد تمت تهيئتنا للطاعة والخضوع بما أسموه علماَ،
وقيماًَ، وأخلاقاً، وإصلاحا أسموه حياة .. موت.
لم يتم تهيئتنا فقط بل
سلمونا لعقيدة الامتثال، واشترطوها لوجودنا، وها هم يعيدون إنتاج أجيال
جديدة ترى في السجن والعزلة نجاة، وفي التهليل والفئوية ارتقاء، وفي
الشعار والكلام برنامج وفعل.
والنقد أول ما يجب أن يتجه إلى
المتعاليات بمختلف تجلياتها، فالمتعاليات تتحكم في وعينا ولاوعينا، فهي من
الأساس قناعة تشير إلى أن الإنسان موجود بغيره لا بنفسه، فهو شبح عابر في
الدنيا..؟ وإذا أردنا التغيير والفكاك من العزلة علينا عندها إن نعري
المتعاليات كما نعري البنى السفلية في المجتمع، هذا إن أردنا عودة الإنسان
إلى بعده الواقعي.
ومحو المتعاليات الضارة التي تسلب من الإنسان
القدرة على الفعل والعمل يصبح نضالاً شاقاً .. يمسي معها النقد فأصلاً بين
الأزمنة، أزمنة العزلة والاستسلام، وأزمنة القرار والانتصار، فلا الأصالة
العمياء، ولا النيوليبراليه، ولا التقدمية الشكلية، تعد المداخل لإعادة
قراءة الواقع الراهن، ولعلنا نحتاج إلى وعي جديد يستنهض المعايش والمكبوت
والمنسي، ويفتح عيوننا بشكل مغاير لأدراك الأشياء والظروف والأمور، فنحن
جميعاً في مركب واحد، فلماذا نصارع أنفسنا على من يصعد على أعلى ساري
السفينة التي يبدو أنها غارقة، بدل التفكير والعمل على إصلاحها وضمان
النجاة للجميع.
وهذا يتطلب سياسات حكيمة ترى الواقع وترى المستقبل
وتسير نحوه بشكل يضمن النظام والتناسق وحشد القوي والموارد واحترام
الاختلافات وتعزيز الصمود ، ولكن ما لدينا هم سياسيون- قدموا أفضل ما
لديهم وأسوء ما لديهم -وليست سياسات.. وللأسف هم سياسيون تقليديون، يركنون
إلي الذاكرة ويطمئنون إليها، يلغون حواسهم ويلغون الزمن، فالحقيقة عندهم
هي وجهة نظرهم فقط، وهي الماضي الذي كل شيء فيه مرتب وتام وكامل، وهؤلاء
لا يمكن لهم إن يقودوا شعبا وقضية، في عالم متسارع التغيير، يعيش متغيرات
إقليمية ودولية طالما تسارعت بدون أن تنتظرنا.
وكل مرة كنا لا نقف حتى
لنقد أنفسنا... لنسمع إلي صوت العقل والضمير أصوات الواقع المر.. الذي
يؤلم كل من يفتح عينة عليه - باستثناء بعض الأصوات التي كانت تطالب
بالنقد- وعموماً لا معنى للنقد والإبداع والممارسة إن لم تكن متجهة نحو
التحرر، فالنقد العدمي والفوضوي يعيق تحويل الواقع وتغييره، إما النقد
الموضوعي العلمي المتجه نحو تحرير الإنسان داخلياً وخارجياً فهو أهم بوصلة
في التغيير.
وللأسف في عالمنا اليوم أضحى التحرر والإصلاح والتغيير
باعثاً للريبة والنفور لدى الناس، وخاصة في مجتمعنا، فالجميع ادعى العمل
من اجلها علي مدار التاريخ العربي والمحلي ومع ذلك لم يحصد الشعب إلا
التراجع والنكوص، بعدما اختارت القيادات ودعاة التغيير مصالحهما، في مرحلة
يتلبس بها كل شيء ويحور فيها الكلم عن موضوعة، فتتلبس قيم الاستعباد
بأقنعة التحرر والإصلاح.
ما يؤكد بأننا مقموعون سياسياً
واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً، ومقموعون بأجسادنا وعواطفنا وعقولنا،
وللدلالة على ما اذهب إليه في مقالي هذا، فالسنوات الأخيرة تكشف في بلادي
أن الجاهز والمغلق والفاسد والمستبد قد انكشف وتعرى أمام تجارب الآخرين...
فلم ننل السلام ولا نلنا الحرية والاستقلال الذاتي والوطني .. ربما
ابتعدنا أشواط وأشواط عن هذه الأهداف، فلا تحرر بدون رؤى مغايرة للسائد
السلطوي الذي يدعي تحرير الإنسان.. فالإنسان في بلادنا ملغي مبعد على كافة
المستويات، خارجياً بسبب الاحتلال وممارساته القمعية والبربرية المتنكرة
لحقوق شعبنا غير المكترثة بأي شرعة؛ وداخلياً بسبب التخلف والفساد والفوضى
والانفلات في كل شيء، وبسبب الأفكار الشمولية التقليدية الحاكمة لسلوكنا
وفعلنا.
فعلى مر التاريخ كان التحرر ينحصر في سلطات تستعيض بالشعار عن
الفعل وتقسم الإنسان إلي فوق وتحت، معي وضدي، داخل وخارج ، بحيث بقيت
وتبقى خادعة مخدوعة لذاتها وللجماهير.
التحرر فعل متنامي متكامل
وضروري للحرية، بدونه تتحول الحرية عن أصلها ولكن مجرد القراءة والكتابة
للنصوص التحررية لا يحدث التحول في الواقع المادي، ومن يعتقد ذلك، يغالط
نفسه كونه لا يعرف شروط التحول والتغيير، فهناك قواعد للحرية ، لعل أهمها:
المعرفة والمغامرة والنقد والتجربة والتحرر، ومن خلالها وغيرها يمكن تركيب
المتغيرات، والانتقال من بنية السقوط والانتظار، إلى بنية المواجهة
والبناء، بعيداً عن منطق الاستسلام للسياسة العفوية والطفولية، التي يدير
بها السياسيون المستفيدين شؤونهم وشؤون الشعب.
فالتغيير صناعة وتركيب
للإنسان، والتغيير برامج، وموارد، وتخطيط سليم، وفهم للواقع، وللفرص
والتحديات، بعيداً عن الوهم والتوهم، فلا يمكن إن يكون هناك تغيير وتحرر
بدون حريات واحترام للإنسان وحقوقه، كما لا حرية بدون نقد يدفع بالوعي
والفعل الجاد إلى مواقع القرار، بإبصار كافي يضمن إعادة تفكيك وتركيب
الموجودات وفق رؤية مدركة غير مهادنة للتخلف والفساد والكساد، رؤية تعرف
كيف تتصرف وفق المعطيات الراهنة والحاضرة، رؤية تحرك كل الشعب، توحده،
تلغي الفئوية فيه، تقول لكل مواطن إن أجمل الأيام لن تأت بعد، وأننا نذهب
صوب الحد الأدنى، بدل التشاكي والتباكي على العالم وعلى الظروف، وعلى ما
يحدث في واقعنا من تراجع وصل حد اللامعقول واللامقبول.
ولكن حذري من
الثورية اللفظية فهي هنا لا تصلح، بل ما يصلح هو العمل التحرري العقلاني
النقدي المستند إلي رؤية وطنية إصلاحية ترى المستقبل وتلتزم وتعمل بلا كلل
ولا ملل ... أعمال كبرى وصغرى لا تبحث في السطحيات بل تقتحم بواطن الأمور.
وتغزوالمواقع والعلاقات والحالات وتمسك بالوقائع والإبعاد، مسلحة بالعلم
والتخطيط وبالحداقة والحدس والمهارات، عندها يمكن إن نغير ونصلح حالنا،
منطلقين بأننا لا نزعم إنا قادريين علي تغيير العالم فقط بالكلام .. لان
ذلك سيقودنا إلى إن ندلي بشهادتنا على العصر، ونمضي صامتين، وأكثر حزناً
وإحباطاً من ذي قبل.
فيصبح كل جديد معزولاً، لان الشروط الاجتماعية
والسياسية والثقافية والتاريخية السائدة تحاصر التحرر وتمنع السؤال
والتساؤل، وتردع كل رؤية تخرج عن نطاق القمع وتختار مصيرها ضمن الكتلة
التاريخية صاحبة المصلحة في التغيير بقوانينها المميزة، لذا فالأمر الواضح
هو الأمر السائد الذي يكرس الاستهلاك والإخضاع.
وفقط عندما نكسر
الأوثان الراهنة، ونفكر في الانعتاق منها، وهدمها ونفكر في المواطن
والوطن: في خيره، وبقائه ، وعزته، وصموده، وراحته، وقدرته على التحمل،
وسيادة القانون، والتسامح الداخلي، وقيادة موحدة، ومؤسسات فاعلة، ونقدم
مصالح الوطن وليس الحزب.. فالحزب أداة من اجل وطن حر.
وبغض النظر عن
السجال الكبير في واقعنا الفلسطيني حول التحرر والإصلاح فيما يعنينا هو
قيام توافق في أوساط النخبة، لأن من أهم دعائم استمرار الأوضاع القائمة..
النجاح في بث الفرقة في أوساط النخبة وإيهام قطاعات منها بأن من مصلحتها
إذكاء النعرات العشائرية والفئوية وغيرها من عوامل التفرقة.
ولهذا
التوافق أهمية فائقة، أولاً لأنه يمثل لب العملية الديمقراطية التي هي في
الأساس نتاج مساومة بين إطراف في صراع لم يحسم بعد، وثانياً لأن قيام
الانتفاضات الشعبية المتوقعة ضد هذه الأوضاع قد تتحول إلى حروب أهلية في
ظل غياب هذا التوافق، كما شهدنا في الجزائر أو الصومال مثلاً والأخطر إننا
قد ننسي أننا تحت الاحتلال، وان الاحتلال هو نقيض الإصلاح والتحرر
والديمقراطية، وانه العائق الرئيسي أمام أهداف شعبنا.
فتوافق القوى السياسية شرطاً لازماً لتحقيق التحول الايجابي على الساحة السياسية، فإن من الواجب البحث عن صيغ تؤطر لهذا التوافق.
وفي الختام أي أمر لا يثبت واقعيته سيمضي ويداس.. ولعل الفوضى، والفلتان،
وحالة التراجع الذي وصلنا إليه، تؤكد صحة ما ذهبنا إلية من عجز، وغياب في
النقد، وغياب في الحرية، وغياب أسس التحرر، ولعل تجربة حزب الله الأخيرة
بكل ما قامت عليه، قد عرت وكشفت واقع حالنا وكلامنا ووعينا وفعلنا.
قد
يبدو من التحليلات السابقة أن ديار مجتمع الحرية والحكم الصالح في بلادنا
والبلدان العربية دونها أهوال.. وهذا صحيح لا مراء فيه. ولكن علينا أن
نتذكر أن منتهى هذه المسيرة العسيرة مقصد هو من النبل بحيث يستحق العناء.
أما آن الأوان إن نتعلم الدرس أم لا نزال بحاجة إلى مائة عام جديد من العزلة؟؟؟ [/b]
الموضوع : الحرية المصدر : منتديات اضواء الاسلام الكاتب: امنية ناصر توقيع العضو/ه :امنية ناصر |
|