يها المسلمون!
إنَّ من قلةِ عقلِ المرءِ وسوءِ تدبيرِهِ أن يُطاولَ ما لا يقدرُ على مطاولتِهِ، أو يُغالبَ ما لا يقدرُ على مغالبتِه؛ فإن ذاك ضرب من الخسار والسفه. وهو مسلك وَعِرٌ نهجه أعداء الرسالة المحمدية في قديم الزمان وحديثه لرد رسالة الإسلام في صور متعددة وأساليب شتى، بلغ قصارى أذاها الهزءَ والسخريةَ بنبيها -صلى الله عليه وسلم-، ﴿ لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى ﴾ [آل عمران: 111]. وليس نبينا بدعاً من الرسل المسخور بهم، بل جعل له ربه سلوة في إخوته الأنبياء؛ إذ لم ينفك أحد منهم من هزء عداته وسخريتهم، ﴿ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾. ومع أن الاستهزاء كان الأسلوب الأبرز مما سلكه الطغاة وكثر امتطاؤهم صهوته - سيما حال ضعف المسلمين -، إلا أن الله - جل شأنه - قد كفى نبيه - صلى الله عليه وسلم - وَضَرَ ذلك الاستهزاء وأهلِه، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ﴾ [الحجر: 95]: كفايةً خاصة بعد كفايته العامة من شر كل شانئ: ﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ﴾ [الزمر: 36]، بل ومن كيد الناس أجمع: ﴿ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ [المائدة: 67].
أَلسْتَ مُنْتهِياً مِنْ نحْتِ أثَلَتِنَا
ولَسْتَ ضائِرَهَا ما أَطَّتِ الإِبِلُ
كَناطِحٍ صَخْرةً يوماً ليقلعَها
فَلَمْ يَضِرْهَا وَأَوْهَى قَرْنَهُ الوَعِلُ
أيها المؤمنون!
إن كفاية الله نبيَّه كيدَ المستهزئين ذو عموم يتخطى تطاول الحقب وتنوع الأعداء واختلاف البقاع وتنوع أسلوب السخرية وحجمِها والدافعِ إليها؛ إذ إن رسالته ختام الرسالات، وقد تكفل الله بخلودها إلى أن يرث الأرض ومن عليها، ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]؛ فلا يمكن لسخرية عدو أن تعارض خلوداً أراده الله وتكفل به. كما أن حكمة الله ورحمته تأبى أن يكون لهذا الهزؤ أثر في تجفيل الناس عن اتباع الحق الذي جاء به نبيه - صلى الله عليه وسلم -، أو بقاءٌ تُشوه به شريعة الله. وكذلك، فإن عفن السخرية يذهب هباءً إزاء رفعة ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي أخبر الله عنه بقوله: ﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾ [الشرح: 4].
والساخر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - عدو لأعظم أولياء الله، وقد تولى الله حرب من عادى ولياً من أوليائه؛ فكيف إذا كان سيّدَ الأولياء، يقول رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْب"؛ فهي حرب معلنة محسومة النتائج. ومن كان الله حسبه كفاه أذى عدوه، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنفال: 64].
عباد الله!
﴿ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ﴾: وعْدٌ من الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - أن لا يضره المستهزئون، وأن يكفيه الله إياهم بما شاء من أنواع العقوبة، كفايةً عامة لا تُحصر أنواعها، ولا أفرادها، كفاية لا تجعل للسخرية أثراً. ومن صور هذه الكفاية: بتر الشانئ، ﴿ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ﴾ [الكوثر: 3]، فكل من شنأه أو أبغضه وعاداه فإن الله يقطع دابره ويمحق عينه وأثره، فأين ذكر عداة النبي - صلى الله عليه وسلم - على مدى التاريخ من ذكره؟ وانتقام الله من الساخر من صور هذه الكفاية؛ فما تظاهر أحد بالاستهزاء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبما جاء به إلا أهلكه الله وقتله شر قتلة. وغالباً ما يكون ذلك الانتقام معجلاً.
يقول شيخ الإسلام:
"وقد ذكرنا ما جرّبه المسلمون من تعجيل الانتقام من الكفار إذا تعرضوا لسب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبلغنا مثل ذلك في وقائع متعددة وهذا باب واسع لا يحاط به".
وقد يجري الله ذلك الانتقام على يد البشر، ومن أجلى مظاهر ذلك قتل ساب النبي - صلى الله عليه وسلم - كما أجمع عليه علماء الإسلام على خلاف بينهم في استتابته. وفي حال تعذر إقامة الحد عليه، فإن الله هو الذي يتولى ذلك الانتقام كما قرره العلماء، وقد يجريه بحيوان بهيم، كما روى الحاكم وصححه ووافقه الذهبي أن لَهَبَ بْنَ أَبِي لَهَبٍ كان يَسُبُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبَكَ"، فَخَرَجَ فِي قَافِلَةٍ يُرِيدُ الشَّامَ فَنَزَلَ مَنْزِلًا، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ دَعْوَةَ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- قَالُوا لَهُ: كَلَّا، فَحَطُّوا مَتَاعَهُمْ حَوْلَهُ وَقَعَدُوا يَحْرُسُونَهُ، فَجَاءَ الْأَسَدُ فَانْتَزَعَهُ فَذَهَبَ بِه. وقد يجري الله ذلك الانتقام بجماد وإن خالف سنن الكون، فقد روى البخاري في صحيحه عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ رَجُلٌ نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ، وَقَرَأَ البَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ، فَكَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَادَ نَصْرَانِيًّا، فَكَانَ يَقُولُ: مَا يَدْرِي مُحَمَّدٌ إِلَّا مَا كَتَبْتُ لَهُ، فَأَمَاتَهُ اللَّهُ فَدَفَنُوهُ، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ، فَقَالُوا: هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ، نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا فَأَلْقَوْهُ، فَحَفَرُوا لَهُ فَأَعْمَقُوا، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ، فَقَالُوا: هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ فَأَلْقَوْهُ، فَحَفَرُوا لَهُ وَأَعْمَقُوا لَهُ فِي الأَرْضِ مَا اسْتَطَاعُوا، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ، فَعَلِمُوا: أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ، فَأَلْقَوْهُ".
معشر المؤمنين!
ومن صور كفاية الله نبيه استهزاء المستهزئين: تجديد محبته في قلوب المؤمنين مع كل حدث إساءة؛ لتكون تلك الإساءة جمراً يتضوع به طيب محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - الكامن في قلوب المؤمنين؛ فيفوحَ مسكاً تطيب به أنحاء المعمورة. وها أنت ترى جموع المؤمنين الغفيرة تهب ذابّةً عن عرض نبيها وقرة عينها ومطالبةً بمعاقبة المجرمين، وإن كان أولئك المؤمنون في لأواء من تسلط عدو ونزف جراح وحق مسلوب كما هو حال إخواننا في سورية الإباء وفلسطين الشموخ وعراق المجد. ولعل ذلك من أسرار إقبال الكفرة على قراءة سيرة نبينا - صلى الله عليه وسلم - ؛ لمعرفة سر غضبة تلك الجماهير الهائلة التي لا يعرف لها في التأريخ نظير؛ فيقودهم ذلك إلى اتباعه ونشر سنته - بأبي هو وأمي -. وتلك أخرى من صور الكفاية.
بارك الله...
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلاة وسلاماً على رسوله المجتبى.
وبعد:
فاعلموا أن أحسن الحديث...
أيها المؤمنون!
ومن صور كفاية الله نبيه سخرية الشانئين أن يلحق الدمار بدولهم التي شجعتهم على السخرية أو سمحت لهم. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وَمِنَ الْمَعْرُوفِ الْمَشْهُورِ الْمُجَرَّبِ عِنْدَ عَسَاكِرِ الْمُسْلِمِينَ بِالشَّامِ إِذَا حَاصَرُوا بَعْضَ حُصُونِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُ يَتَعَسَّرُ عَلَيْهِمْ فَتْحُ الْحِصْنِ، وَيَطُولُ الْحِصَارُ إِلَى أَنْ يَسُبَّ الْعَدُوُّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحِينَئِذٍ يَسْتَبْشِرُ الْمُسْلِمُونَ بِفَتْحِ الْحِصْنِ، وَانْتِقَامِ اللَّهِ مِنَ الْعَدُوِّ؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ ذَلِكَ قَرِيبًا، كَمَا قَدْ جَرَّبَهُ الْمُسْلِمُونَ غَيْرَ مَرَّةٍ؛ تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ﴾، وَلَمَّا مَزَّقَ كِسْرَى كِتَابَهُ مَزَّقَ اللَّهُ مُلْكَ الْأَكَاسِرَةِ كُلَّ مُمَزَّقٍ، وَلَمَّا أَكْرَمَ هِرَقْلُ وَالْمُقَوْقِسُ كِتَابَهُ بَقِيَ لَهُمْ مُلْكُهُمْ".
ويقول: "ونظير هذا ما حدثناه أعداد من المسلمين العدول أهل الفقه والخبرة عما جربوه مرات متعددة في حصر الحصون والمدائن التي بالسواحل الشامية لما حصر المسلمون فيها بني الأصفر في زماننا، قالوا: كنا نحن نحصر الحصن أو المدينة الشهر أو أكثر من الشهر وهو ممتنع علينا حتى نكاد نيأس منه حتى إذ تعرض أهله لسب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والوقيعة في عرضه عجلنا فتحة وتيسر ولم يكد يتأخر إلا يوماً أو يومين أو نحو ذلك، ثم يفتح المكان عنوة، ويكون فيهم ملحمة عظيمة، قالوا: حتى إن كنا لنتباشر بتعجيل الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه مع امتلاء القلوب غيظاً عليهم بما قالوا فيه. وهكذا حدثني بعض أصحابنا الثقات أن المسلمين من أهل المغرب حالهم مع النصارى كذلك".أهـ.
أيها المؤمنون!
ومع كفاية الله نبيَّه سخريةَ المستهزئين، إلا أن واجب نصرته وتعزيره لاحقٌ كلَّ مسلم بما يطيق، ولا يتحقق الفلاح إلا بذلك، ﴿ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون ﴾.
ومن أجلى صور المناصرة والتعزير:
اتباع سنته حال الغضب والرضى والمنشط والمكره والعدل والأثرة، ونشرها والصدع بها، والذود عنها، وجهاد شانئها. هكذا تكون نصرته. وبقدر تلك النصرة تكون كفاية الله للعبد وتخليد عمله، قِيلَ لِأَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ: إنَّ بِالْمَسْجِدِ قَوْمًا يَجْلِسُونَ وَيُجْلَسُ إلَيْهِمْ فَقَالَ: "مَنْ جَلَسَ لِلنَّاسِ جَلَسَ النَّاسُ إلَيْهِ. وَلَكِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ يَمُوتُونَ وَيَحْيَى ذِكْرُهُمْ وَأَهْلَ الْبِدْعَةِ يَمُوتُونَ وَيَمُوتُ ذِكْرُهُمْ"؛ لِأَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ أَحْيَوْا مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم - فَكَانَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾، وَأَهْلَ الْبِدْعَةِ شَنَؤا مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم - فَكَانَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿ إنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ﴾.
الموضوع : ﴿ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ﴾ المصدر : منتديات اضواء الاسلام الكاتب: شهد شحاتة