انحسر المدّ الذي عرفته اللغة العربية بانحسار مدّ النهضة والتطور الحضاري بانحرافهما عن مسارهما الطبيعي، وبدخول الوطن العربي والعالم الإسلامي في متاهات من الارتباك والقلق، ودوامات من التيه والضياع، تبدأ من تأسيس دولة إسرائيل في الجزء الأكبر من فلسطين، وما ترتب على ذلك من تحولاتٍ عاصفة هزّت المجتمعات العربية الإسلامية، كان من بينها الحروب التي خاضتها بعض الدول العربية ضد إسرائيل، وفي المقدمة منها مصر التي تحملت العبء الأكبر من الخسائر المادية والمعنوية الناتجة عن تلك الحروب. وبهذا الانتقال من مرحلة الاستقرار والانصراف إلى تجديد البناء الحضاري، إلى مرحلة الاضطراب وخلخلة البنيات التحتية للمجتمعات العربية الإسلامية، انتقلت اللغة العربية من مرحلة المدّ إلى مرحلة الجزر، على المستويات كافة. ولا غرو، فاللغة تعكس صورة المجتمع وتعبر عن التحولات المجتمعية أصدق وأوفى ما يكون التعبير.
وتأسيساً على ذلك، فإن الوضع الحالي للغة العربية تتداخل فيه عوامل كثيرة، ويعود في تعقيداته إلى عناصر متشعبة وأسباب يرتبط بعضها ببعض. وحصيلة ذلك أن ضعف اللغة، وهو واقع لا ينكر، هو فرع من ضعف الحياة العقلية والثقافية، وبالدرجة الأولى الحياة العامة في صورها المتعددة وفي مناحيها المتنوعة. ولما تكون القضية بهذا الحجم، وعلى هذه الدرجة من الخطورة، فإن الأمر يَتَجاوَزُ (دائرة الأزمة اللغوية أو الثقافية)، إلى (دائرة الأزمة الحضارية) بأبعادها السياسية والسيادية والأمنية والفكرية.
فهذا الوضع المركب والحالة المعقدة اللذان تعيشهما اللغة العربية اليوم، ليس مردّهما إلى اللغة في حدّ ذاتها، عجزاً أو ضعفاً أو قصوراً، كما يزعم خصوم الضاد ـ وقد أصبحوا اليوم يتكاثرون ـ، ولا مردّهما إلى أهل اللغة من حيث إنهم لا يسايرون تطور العصر ولا يفلحون في تجديد اللغة وتطويرها ـ بالمعنى غير البريء للتجديد والتطوير الذي يشاع ويتردد ـ، وإنما مردّ هذا الوضع القلق والحالة غير السوية، إلى مجمل الأوضاع العامة التي تسود المجتمعات العربية بصورة خاصة، وتسود أيضاً المجتمعات الإسلامية في العالم الإسلامي، بصورة عامة.
ومن خلال هذا المنظور الشمولي إلى واقع اللغة العربية في هذه المرحلة، نرى أنّ ثمة علاقة جدلية بين اللغة العربية، وبين الحياة العامة في مجالاتها كافة، كما نرى أن الواقع اللغوي في البلدان العربية هو انعكاس للواقع في جوانبه المتنوعة، وليس في جانب واحد منها، كما قد يفهم الذين لا يتعمقون في النظر إلى الأمور ولا يقلبونها على أوجهها المختلفة.
ولذلك فإن انحسار مدّ اللغة العربية كان الثمرة المرة لانحراف أهل اللغة نحو مآزق أبعدتهم عن مصادر القوة الحقيقية التي تتمثل في قوة الروح وقوة الفكر وقوة الضمير وقوة الإرادة في تحصين الذات، وفي حماية الكيان، وفي صون الحقوق والذود عن المصالح العليا للأمة.
لقد انعكست حالة الضعف التي تسري في كيان الأمة العربية الإسلامية على حالة اللغة العربية بصورة واضحة لا لبس فيها، فأصبحت في وضع يجعلها تتخلف عن العصر، وتتعرض لإهمال شديد من أهلها الذين يعرضون عنها، ويرمونها بكل نقيصة، يستوي في ذلك من تعلم العربية وأجادها وملك ناصيتها، ومن لم يتعلمها أو تلقاها من مصدر غير كفء. وتَزَامَنَ ذلك مع هيمنة الأفكار والمذاهب والنظم الغربية على العقل العربي والإسلامي والتي فرضت سياسات وأملت اختيارات تَتَعَارَضُ مع الخصوصيات الثقافية والحضارية للشعوب العربية الإسلامية، مع ما استتبع ذلك من شنّ حرب شعواء على اللغة العربية، ينفخ في نارها بعض أبناء الضاد من جهة، ومن جهة أخرى تشجع وتحرض عليها العناصرُ الأجنبية التي تعمل من أجل فرض لغاتها وثقافاتها ونظم حياتها على الشعوب غير القادرة على حماية خصوصياتها، لإيمانها بأن ذلك هو السبيل نحو الاستحواذ على الأمور وتسخيرها لخدمة مصالحها الحيوية.
يقول الدكتور حسن ظاظا رحمه اللَّه : »... وبدا لبعضهم أن الإصلاح يجب أن يولد في المدرسة، وأن الإصلاح هو التقليل والتهوين والتبسيط، فظهرت كتب لا عدد لها، تدّعي كل فصيلة منها أنها تحمل الإكسير السحري الذي يحلّ عِقال الأبكم، ويفجر ينابيع الفصاحة من صخور اللكنة والركاكة. وما تزال التجارب تترى، وفي كل يوم يبدو الخطأ الجسيم وتعنّ معه الحاجة لتجارب أخرى. ولكن ينبغي أن نقول، إحقاقاً للحق : إن جيلاً من أرباب الأدب والصحافة والمسرح، ومن العلماء المتعمقين في العربية وتاريخها وآدابها، ومن المترجمين والملخصين والمعلقين والنقاد، قد ضربوا مثلاً للعمل المنظم الذي يفرض الأنس به على أشدّ القلوب جحوداً، هذا فضلاً عن فوج من الشعراء الذين حركوا القلوب، على نحو انبثق عنه في نفس القارئ العربي، بصورة عفوية تلقائية، شعورٌ عميقٌ بأن اللغة الفصحى ما تزال صالحة للحياة والحضارة. وكان من نتائج هذا أن انضوى أساتذة العلوم الرياضية والطبيعية والهندسية والطبية تحت هذا اللواء، وتم جانب ضخمٌ جداً من تعريب التفكير العلمي، وإذا بالعالم العربي في جامعاته يعود، رويداً، إلى دراسة العلوم بالعربية، وتغلبت اللغة على خطر الموت، وخرجت من هذه الجولة الأولى والحاسمة، منتصرة انتصاراً لا شكّ فيه«(3).
الموضوع : اللغة العربية بين المدّ والجزر المصدر : منتديات اضواء الاسلام الكاتب: atefbbs