من أكبر التحدّيات التي تواجه اللغات الحيّة في عالم اليوم، تحدّي العولمة التي تندفع في اكتساح جارفٍ للخصوصيات اللسانية واللغوية والثقافية التي هي القاعدة الصلبة للوجود المادي والمعنوي للأمم والشعوب، لتشكّل بذلك خطراً محدقاً بالهويات الوطنية.
وتواجه اللغة العربية اليوم، باعتبارها وعاء للثقافة العربية وللحضارة الإسلامية، أخطاراً تَتَفَاقَمُ باطراد، تأتي من هيمنة النظام العالمي الذي يرفض صياغة العالم الجديد متعدّد الأقطاب والمراكز والثقافات، والذي يسعى لفرض اللغة الأقوى، بحكم قوة الفعل السياسي والثقل العلمي والتقاني والاقتصادي، على المجتمعات الإنسانية التي تقصر وسائلها الدفاعية الثقافية ــ والسياسية والاقتصادية أيضاً ــ عن التصدّي لهذه الهجمة اللغوية الشرسة التي تهدّد الأسس الثقافية والخصائص الحضارية.
وإذا كنا نسلّم بأن العولمة ليست سلبيات كلُّها، وأن فيها جوانب كثيرة تعود بالنفع والفائدة على الدول النامية، إن أحسنت هذه الدول التكيّف معها، واستطاعت مواكبتها وتجنّب سلبياتها، فإن هذا لا يمنعنا من القول إنَّ اللغة العربية تواجه اليوم، وربما تواجه غداً، تحدّياً حقيقياً ضارياً، يفرض عليها التعامل معه بذكاء وفطنة. ذلك أن ظاهرة العولمة لا تعني سرعة تدفق السلع ورؤوس الأموال والخدمات والبشر والأفكار بغير حدود ولا قيود فحسب، بل تعنى إلى ذلك كله، سرعة تدفق اللغة الأقوى التي تملك مقوّمات القوة والهيمنة والسيطرة على اللغات الأخرى، خصوصاً لغات الأمم التي تعاني من مخلفات عهود الاستعمار وتواصل بذل الجهود للتحرر من قيودها، والتي تخضع لضغوط شتَّى ناتجةٍٍ عن عدم انتظام أوضاعها الاقتصادية والتعليمية في إطار سياسات وطنية قائمة على حسابات سليمة واختيارات قويمة.
إنَّ العلاقة بين اللغة العربية وبين العولمة، علاقة ذات صلة بمستقبل هذه اللغة. وليس من شك أن مستقبل اللغة العربية في عالم متغيّر تهيمن عليه آليات العولمة وضغوطها، يقترن بالتنمية الشاملة المتكاملة المتوازنة المستدامة؛ لأن اللغة من حيث هي، تحيا وتزدهر بحياة الأمة التي تنطق بها، وبازدهار العلوم والآداب والفنون والمعارف والصناعات والتقانات التي يبدعها أهلها في المجالات كافة، فيرتقون في مضمار التقدّم المادي والمعنوي، ويتبوأون المكانة اللائقة بهم بين الأمم، فتكون لهم السيادة على لغتهم، لأنَّ لهم السيادة على مقدراتهم ومكتسباتهم
فاللغة إذن جزء لا يتجزأ من السيادة، والحفاظ على اللغة هو حماية لهذه السيادة. ولذلك فإنَّ التحدّي الأكبر الذي سيواجه اللغة العربية في المستقبل، هو الحفاظ على خصوصياتها وضمان استمرارها وإشعاعها، وحماية المكوّنات والمقوّمات والقيّم التي تشكّل العناصر الجوهرية للكيان العربي الإسلامي الكبير.
في هذا الإطار، وبدافع قويّ من الحرص على ضمان (السيادة اللغوية) للأمة العربية الإسلامية، كتبت أربعة بحوث في أربع مناسبات؛ البحث الأول حول (مستقبل اللغة العربية في عالم متغيّر) ألقيته أمام المؤتمر الثالث والسبعين لمجمع اللغة العربية بالقاهرة عام 2007 م، والبحث الثاني حول (اللغة العربية ووسائط الاِتصال) وكان في الأصل محاضرة ألقيتها في المعهد العالي للإعلام والاِتصال في الرباط عام 2007 م، والبحث الثالث حول (اللغة العربية وتحدّيات العولمة : رؤية لاستشراف المستقبل) وقد ألقيته أمام الدورة الرابعة والسبعين لمجمع اللغة العربية بالقاهرة هذا العام 2008 م. أما البحث الرابع الذي وإن كنت قد كتبته وقدمته إلى المؤتمر الثاني والسبعين لمجمع اللغة العربية بالقاهرة في عام2006 م، فقد حرصت على أن أختم به هذه البحوث، وعنوانه : "المعجم التاريخي للغة العربية في ضوء متغيّرات الألفية". ويجمع بين البحوث اللغوية الأربعة قواسم مشتركة، وتدور جميعها حول محاور متقاربة، وإن اختلفت طرق التناول والعرض، فهي تدرس الوسائل التي تساعد في مواجهة التحدّيات الكبرى التي تفرضها العولمة على لغة الضاد، فتحاصرها وتضيق عليها الخناق، وتعزلها عن مجرى الحياة، وتحكم عليها بالخضوع لضغوط لسانية ولغوية ذات مضامين ثقافية وفكرية، فتضعف اللغة، وتقصر عن الوفاء بحاجات المجتمع، وتعجز عن مسايرة التقدّم المذهل الذي يعرفه العالم اليوم في ميادين العلوم والتقانة والمعلوميات، ومواكبة ما يشهده مجتمع المعرفة من تطوّر مدهش يحير العقول.
لقد كان الهاجس الذي ملأ خاطري أثناء كتابتي لهذه البحوث التي أنشرها اليوم، هو التأكيدعلى التفاعل بين العلم والتقانة وبين العناصر اللغوية الثقافية والتعليمية والحضارية والاجتماعية، الذي هو تفاعل قائم وملموس، وعلى ارتباط سياسة العلم والتقانة بالسياسة الثقافية واللغوية الذي هو بدوره ارتباط وثيق وملموس. وهذا ما ينفي الدور الحيادي للعلم والتقانة وعلاقته باللغة. ولذلك تَتَفَاعَلُ اللغة العربية والتقانة والتنمية والعناصر الثقافية للأمة العربية الإسلامية. وهذا التفاعل هو الشرط اللاَّزم لتقوية اللغة العربية وإنعاشها وتجديدها وتطويرها، حتى تكون قادرةً على التكيّف مع المتغيّرات وعلى مواجهة التحدّيات.
إنَّ الأمة التي لا تنتج العلم، تضعف لغتها وتنكمش وتنعزل. وفي ضعف اللغة ضعفٌ للكيان كما هو معلومٌ لدى علماء الاجتماع اللغوي، وعلماء الاجتماع السياسي بصورة عامة. فاللغة تقوى وتكتسب المناعة ضدّ المؤثّرات الخارجية، حين تكون لغة العلم، ولغة المعرفة، ولغة الحياة التي تفرض نفسها وتملي شروطها، فلا تذوب في لغة أخرى، فتفقد هويتها وتتخلّى عن رسالتها.
إنَّ اللغة العربية تقف اليوم في مفترق الطرق؛ فإمّا أن تتجدّد وتتطوّر لتواكب المتغيّرات اللسانية والمستجدّات في الوظائف اللغوية، لتحيا، ولتقاوم، ولتثبت وجودها، وإمّا أن تنكمش وتتقوقع، فتتراجع وتضعف. وهذا ما لا يريده لها أحدٌ من أبنائها وبناتها ومن محبّيها وعشاقها، وهم كثر.
إنَّ اللغة العربية تقف وجهاً لوجه أمام تحدّيات العولمة. وتلك هي القضية الرئيسَة التي تعرض لها هذه البحوث.
واللَّه الموفّق، وهو الهادي إلى سواء السبيل.
الموضوع : الأخطار المحيطة باللغة العربية في عصر العولمة وسبل تلافيها المصدر : منتديات اضواء الاسلام الكاتب: atefbbs