نحن نعيش عصر القوة الذى يعنى - بقول واحد - عصر العلم.
ومصداقية كل القوى السياسية التى تملأ الفضاء الوطنى بالحديث عن النهضة الجديدة بعد ثورة يناير، مرهونة بمشروعات تلك القوى للنفاذ إلى عصر العلم، لا ينفذون إلا بسلطان.
ولما كان المشروع الوحيد المطروح على الساحة الآن هو المشروع الحكومى، فإن حواراً مع الدكتور معتز خورشيد، وزير التعليم العالى والبحث العلمى، يصبح لازماً الآن، خاصة بعدما قاد بنجاح عملية ديمقراطية كبيرة فى الجامعات لانتخاب القيادات، ولأول مرة فى تاريخ مصر.
حاورنا الدكتور معتز حول رئاسته الوفد المصرى فى اليونسكو، والذى أسهم فى قبول فلسطين عضواً بالمنظمة، وحول التفاصيل المتعلقة بمقرطة الحياة الجامعية، والانفتاح السياسى للجامعة، وتطوير مؤسسات التعليم العالى وجامعة زويل، ورفضه التعاون مع إسرائيل فيها إذا طُرح، وعلاقته بالإخوان وجماعة 9 مارس والسلفيين بالجامعة، ورواتب أعضاء هيئات التدريس، وسياسة الابتعاث فى مصر، ومصروفات الجامعات الخاصة، ومحاولاته تطوير قانون تنظيم الجامعات المصرية، وحدود الخلل فى سياستنا للبحث العلمى.
وهنا نص الحوار..
> عدت لتوك من باريس بعدما حضرت اجتماعات منظمة التربية والعلوم والثقافة «اليونسكو»، والتى تم فيها منح فلسطين عضوية المنظمة، الأمر الذى ترتبت عليه مجموعة من التداعيات.. ولكن قبلما نصل إلى تلك التداعيات ربما يكون من المناسب أن تحكى لنا عن الدور المصرى فى كواليس تلك الاجتماعات، وما الذى فعلنا بالضبط حتى تحصل فلسطين على العضوية؟
- كان دورنا فى اليونسكو متميزاً خلال الاجتماعات، لأن مصر الآن رئيس المجموعة العربية، ورئيس مجموعة عدم الانحياز، وفى زيارتى قبل الأخيرة للمنظمة حصلنا على رئاسة لجنة جمعيات النفع العام والجمعيات المدنية على المستويين الإقليمى والعالمى، ودور تلك اللجنة الأخيرة مهم جداً فى اليونسكو الآن مع تعاظم دور الجمعيات الأهلية فى الحالة الدولية الجديدة، وأيضاً تحتل مصر موقع نائب رئيس المجلس التنفيذى، ونائب رئيس المؤتمر العام للمنظمة.
إذن الدور المصرى من حيث آليات عمل اليونسكو قوى، ثم إن مصر بتاريخها لها دور كبير منذ جهود د. شمس الوكيل، والدكتور فتحى سرور، وهذه حقيقة موضوعية لابد من ذكرها، على الرغم من غياب وجود سفير مصرى عن المنظمة فى الفترة الأخيرة.
وإذا كانت مصر تلعب دوراً فى هذا الإطار، فأساسه هو علاقتها بالدول العربية، ومن خلال قيادتها للمجموعة العربية لعبت دوراً كبيراً فى التأثير على صدور القرار.
سعينا أولاً إلى وحدة الموقف العربى، لأن تخلف دولة واحدة عن مساندة الطلب الفلسطينى كان سيجعل منظرنا سيئا جداً، ثم تمت لقاءات على مستويات مختلفة، بين المجموعة العربية، والمجموعات الآسيوية، والأفريقية، والإسلامية، ولكنها كانت متفرقة فى المجموعة الأوروبية مع كل دولة بمفردها، لأن أوروبا انقسمت من حيث توجهاتها إزاء فلسطين، لا بل لم يكن الانقسام بين كتلتين واضحتين «أوروبا القديمة وأوروبا الجديدة مثلاً»، فجمهورية التشيك من أوروبا الجديدة، ومع ذلك فهى رفضت عضوية فلسطين، رغم ما جمعنى بممثليها من حوار وتفاوض شعرت بعده أن توجه تلك الدولة هو عدم الموافقة، ومن أوروبا القديمة كان موقف الألمان والهولنديين سلبيا جداً، تجاوز الرفض إلى محاولة التأثير على الدول الأخرى.
واجتمعت - خلال وجودى فى باريس - مع إلينا بوكوفا، مدير منظمة اليونسكو ونائبها، وكانت بوكوفا متخوفة جداً من التحرك نحو إقرار الطلب الفلسطينى لما سوف يكون له من أثر على التمويل الأمريكى للمنظمة، وهو ما جرى بالفعل بعد صدور القرار حين علقت واشنطن تمويلها لليونسكو.
كما عقدت لقاءات منفصلة مع كل الوزراء الذين زاروا اليونسكو فى المؤتمر العام، وفى المجلس التنفيذى شخصاً بشخص، ودفعنا بحيثيات مساندتنا للطلب الفلسطينى فى عملية إقناعية تبغى تعظيم الحشد والتأييد له، وأكدنا أن تحرك عضوية فلسطين يجرى - فى نفس الوقت - فى مجلس الأمن أو الجمعية العامة، ولكن إقرار العضوية فى اليونسكو - وهى منظمة تهتم بالعلوم والثقافة والتعليم والتراث أيضاً - سيكون إضافة كبيرة جداً لتلك المنظمة، ولعدالة المطلب الفلسطينى.
> أنت قادم من تخصص حاسبات آلية واقتصاد، ففى البداية حصلت على ماجستير فى الهندسة الصناعية، ثم دكتوراه فى علوم الحاسب والمعلومات، ثم دكتوراه أخرى فى علوم الإدارة والاقتصاد، وهذه مراكمات علمية نفعتك بالقطع فى عملك كنائب لرئيس جامعة القاهرة، ورئيس للجامعة البريطانية، ووزير تعليم عال.. ولكن من أين جئت بخبرة التفاوض السياسى؟
- «ضاحكاً» لا.. هذه مسألة «جينية» لأن أخوالى من عائلة محيى الدين الشهيرة بالسياسة، والتى لمعت فيها أسماء فؤاد محيى الدين، وزكريا محيى الدين، وخالد محيى الدين، وصفوت محيى الدين.
وصحيح أننى لم أمارس عملية المفاوضات أو الدبلوماسية بشكل مباشر، ولكن نشأتى فى ذلك المناخ السياسى أعطتنى أبعاداً سمحت لى بلعب دور فى هذا المجال حين تقتضى الظروف.
> أكمل إذن حديثك عن مهمتك فى اليونسكو؟
- ظللت فى اجتماعات متواصلة، ثم تركت باريس قبل التصويت بيوم، إذ كانت هناك ضرورة للعودة للتشاور مع الدكتور عصام شرف، رئيس الوزراء، حول بعض القلق الذى شهدته الجامعات المصرية، وكان من الصعوبة أن أبقى فى اليونسكو لفترة أطول، ولكننى أنجزت مهمتى قبل القرار بيوم، فكما تعلم أخذ المجلس التنفيذى توصية بالاستجابة للطلب الفلسطينى، ثم لكى تصبح تلك التوصية نهائية كان لابد من موافقة المؤتمر العام، وقد سافرت قبل تلك الخطوة الأخيرة.
التصويت فى المؤتمر العام كان ممتازاً لأن 107 أعضاء وافقوا، و14 رفضوا، وحوالى خمسين امتنعوا، «وأصحاب موقف الامتناع عادة ما يخرجون من الحساب النهائى الذى ينبغى أن يصدر فيه القرار بأغلبية الثلثين»، وكان ذلك التصويت إنجازاً كبيراً فى الظروف الحالية.
> كيف كان شكل التنسيق بينك وبين وزارة الخارجية؟
- تنسيق مباشر مع وزير الخارجية محمد كامل عمرو أولاً، كما كان لدينا فى اليونسكو ممثل لوزارة الخارجية فى الوفد الداعم الذى يتبع وزارة التعليم العالى، ثم كنت على تنسيق واتصال دائمين مع السيد ناصر كامل، سفير مصر فى فرنسا، الذى كان يتصل بوزير الخارجية لإطلاعه على تطورات ما يجرى.
ثم أعود للحديث عن مفاوضات ما قبل القرار، فأقول إننا لم نناقش مع الأمريكان قرارهم بالرفض، ولكننا تفاوضنا لتقليل التأثير السلبى على اليونسكو من جراء القرار الأمريكى بسحب التمويل.
الأمريكيون أرادوا الوصول إلى مواءمة compromise تدفع نحو تأجيل التصويت فى المؤتمر العام، وكان معنى ذلك تسويفا للعملية كلها، ولكن موقفنا بالاشتراك مع الدول العربية كان عظيماً.
كان سفير أمريكا يقول لى: «أنا أحاول حل الموضوع، وأنا لا أسعى لعرقلة صدور القرار، ولكن رأيى أن صدوره حالياً سيسبب مشكلة»، ولكننى بعد أن استمعت له أصررت على رأينا بأن يعرض الموضوع فى توقيته المناسب، وأن نجهز للتصويت، وكان الإنجاز الكبير.
> هل تعتقد أن نتيجة هذا التحرك ترجع إلى وزن مصر التقليدى فحسب، أم أن مناخ الثورات العربية أضاف شيئاً فى هذا السياق؟
- أرى أن هناك مناخا سياسيا جديدا نتج عن الثورات العربية والربيع العربى.
ما حدث فى تونس ومصر وليبيا، وما يحدث فى سوريا واليمن، خلق تياراً ثورياً جديداً - بصرف النظر عن نتائجه فى النهاية - وقد أحست إسرائيل بذلك التغيير فى مناخ الشرق الأوسط، وبدأت تفهم وتدرك دروسه، وليس أدل على ذلك من الاعتذار الرسمى الإسرائيلى لمصر بعد أحداث الحدود فى سيناء، وهو أمر لم يحدث من قبل، واعتراف بالجريمة يمكن أن نقاضى إسرائيل به، وهو ما لم يحدث مع تركيا برغم قوتها - فى حادث أسطول «الحرية» - على الرغم من الظروف المحيطة بذلك الحدث، وأهمية تركيا كحليف لإسرائيل.
أمريكا لم تعِ خطورة نتائج ما جرى فى الربيع العربى بمقدار ما وعته إسرائيل، حين حاولت فى اعتذارها أن تخفف من صلفها، ولكنها من جانب آخر حاولت فى التضاغط الذى سبق تصويت اليونسكو أن تنبهنا إلى أنها مازالت القوة العظمى الإقليمية المسنودة من الولايات المتحدة بشكل مطلق، إلا أن ذلك - كما رأيت - لم ينجح.
لابد أن نستغل المناخ الجديد لبناء وهندسة الدور المصرى الذى يجب أن يكون فى المرحلة المقبلة، عبر العودة إلى أفريقيا مرة أخرى، ولعب دور أكثر أهمية على مستوى دول عدم الانحياز، والدول الإسلامية، ودول الشرق الأوسط العربية وغير العربية، يعنى نحن نعود الآن إلى دوائرنا العربية والأفريقية والإسلامية التقليدية فى الخمسينيات والستينيات.
الفلول والتكنوقراط
> قدت عملية democratisation أو مقرطة كبيرة للعمل الجامعى عبر انتخابات متنوعة الدرجة والمستوى، سواء بالنسبة لرئاسات الأقسام أو عمداء الكليات أو رؤساء الجامعات الذين صدرت قرارات تعيينهم مؤخراً بعد فحص إدارى أو رقابى، أريدك أن تكلمنى عن دلالات تلك العملية الكبيرة لمقرطة الحياة الجامعية، وأن تشرح لى أن معظم الذين فازوا فى انتخابات رئاسة الجامعات المصرية كانوا ينتمون إدارياً أو حزبياً للحزب الوطنى المنحل؟
- لابد أن نقسم الأعضاء السابقين فى الحزب الوطنى إلى مجموعتين، الأولى هى التى انتمت إلى النظام القديم من خلال علاقتها بالحزب ودورها فيه، والقيادة من أولئك ساعدها انتماؤها للحزب فى أن تصل إلى منصب قيادى، وهناك مجموعة أخرى - بحكم مناصبها القيادية - كانت مجبرة على دخول الحزب، بل دخول لجنة السياسات، ولكن ليس لها علاقة بالسياسة من الأصول والأساس، وأولئك يجب أن نعتبرهم «تكنوقراط».
إذن هناك من نجحوا فى انتخابات رؤساء الجامعات، مجموعة ممثلة للحزب الوطنى المنحل بالفعل، ولكنها ليست كبيرة.
بعد الثورة كان هناك مناخ جديد يتشدد نحو الديمقراطية وتعددية الاختيار والتحول السياسى الجديد نحو نظام ديمقراطى، يحقق العدالة فى الاختيار، والانتقال إلى آليات أفضل، فيها شفافية وانتصار للمعايير.
وبقول واحد أستطيع أن أقرر أن الممارسات المعيبة فى اختيار القيادات التى كانت سائدة فى ظل النظام السابق كان لها دور فاعل فى حالة التشدد الديمقراطى أو الانتخابى.
هناك فى الجامعات الدولية ما يبنى تعيين القيادات على الانتخابات، مثلما فى إيطاليا أو اليونان ودول أخرى، حيث يشارك فى الاختيار الطلبة وأعضاء هيئات التدريس والعاملون بنسب مختلفة، مثل جامعة «ياسا بلانزا» فى إيطاليا التى يتم فيها انتخاب رئيس الجامعة.
منصب رئيس الجامعة هو منصب سياسى مهم، ولكن تلك الأهمية تآكلت وتلاشت فى فترة النظام السابق بسبب المناخ الذى ترتب على ممارسات غير سليمة، خلقت فجوة ثقة كبيرة تعمقت لدى أعضاء هيئة التدريس تجاه أى لجنة تضع معايير، وتقيّم وتضع قائمة للمرشحين وتزن الخبرات.
إهدار المعايير على نحو متواصل أدى إلى أن يرفع أعضاء هيئات التدريس مطلباً لا نقاش فيه هو «الاختيار الحر بالانتخابات المباشرة» للقيادات فى مستوياتها المختلفة.
ومن هنا بدأت - ومن قبلى د. عمرو عزت سلامة، وزير التعليم السابق - عقد سلاسل من الاجتماعات واللقاءات مع ممثلى تيارات مختلفة للتعرف على إمكانية التوافق حول رؤية موحدة لطريقة اختيار القيادات، ومنهم من كان مسيّساً، أو تكنوقراط، أو منتمياً لجماعة 9 مارس، أو الإخوان المسلمين، أو حتى بعض السلفيين، وكذلك رؤساء الجامعات من خلال المجلس الأعلى للجامعات.
وبدأت استكمال صورة مطلب أعضاء هيئات التدريس، وأحاول التعرف على الآلية المطلوبة لتحقيق مفهوم الاختيار الحر، فقد كانت إحدى مطالباتهم هى إعادة النظر فى آليات ونظم انتخاب القيادات الجامعية على مستوى رؤساء الأقسام والعمداء ورؤساء الجامعات.
ولما كانت تلك اللقاءات منفردة تتم مع مجموعات محددة، وتخوفت أن يقول البعض إن وزارة التعليم العالى أو تيارات بعينها هى التى اختارت آلية تعيين القيادات- أرسلنا ورقة ببديلين واضحين إلى أعضاء هيئات التدريس فى شكل استفتاء استرشادى لكل الأقسام العلمية فى كل الجامعات الحكومية، وهما أن يكون هناك انتخاب حر مباشر للعميد، ومجمع انتخابى بالنسبة لرئيس الجامعة، وهذا المجمع الانتخابى يتم اختياره أيضاً من الكليات، يعنى البديل الأول قائم - تماماً - على الانتخابات، أما البديل الثانى فهو أن يكون هناك ما يطلق عليه «لجنة المفاضلة»، تقيّم المتقدمين للمنصب فى قائمة، وتراجع كفاءاتهم الإدارية، وخبراتهم فى المجال الأكاديمى، وأن يكون لديهم رؤى مستقبلية للعمل الجامعى، سواء من حيث معايير الجودة والاعتماد، أو السياسات العلمية والإدارية.
> هذا كلام نظرى - يا سيادة الوزير - جميل جداً وربما يؤدى نظرياً أيضاً إلى اختيارات طيبة.. ولكن على المستوى العملى أو الميدانى فإنه فى إطار الحراك السياسى الحادث فى مصر، وفى إطار الجدل السياسى والصراع السياسى فإن الاختيار هنا سيتأثر فى لجنة المفاضلة بعناصر ليست علمية بالضرورة ولا تنطبق عليها المعايير الموضوعية؟
- عموماً.. فإن أعضاء هيئات التدريس رفعوا عنا الحرج وبنسبة 85٪ اختاروا الانتخاب الحر المباشر، القائم على اختيار العميد من خلال القاعدة العريضة لأعضاء هيئات التدريس.
> وهذا أدعى لعدم موضوعية الاختيار، فالمسألة ستبنى على التفضيلات ذات الطابع الشخصى.
- ليس أمامنا سوى الاسترشاد بما يراه الناس، وقد وافق أعضاء هيئة التدريس بنسبة 85٪ كذلك على اختيار رؤساء الجامعات عبر المجمع الانتخابى، وقد استرشدنا بهذا وأعددنا آليات لتنفيذ ذلك التوجه، «كما نصوغ لائحة تنفيذية للقانون مثلاً».
كل تلك الأمور تمت فى وقت ضيق جداً، وكانت مشكلتنا الحقيقية هى السباق مع الوقت، بحيث نبدأ العام الدراسى وقد فرغنا من الانتخابات أو شارفنا على ذلك فى انتخابات الأقسام والعمداء، ويمكن إرجاء انتخابات رؤساء الجامعات لأن أمرها سهل، فمنذ بداية الدراسة - كما تعلم - هناك محاولة لتعطيل الانتخابات، وهناك أناس يدفعون الطلاب ويحركونهم، ليتحلقوا حول المجمعات الانتخابية، ويحاولوا التأثير على رأى الأساتذة المصوّتين.
> من الذى من مصلحته تعطيل المجمع الانتخابى؟
- من يرى أن الانتخابات لم تأت نتيجتها بالشكل الذى يحبه.
أنت ذكرت أن الانتخابات جاءت ببعض القيادات السابقة، وهناك من لم يرض عن ذلك، وكان رأيهم أن يتغير الكل، ونبدأ الانتخابات، ثم كان هناك تيار قوى وعارم يحاول فرض استقالة كل القيادات.
وكان أمامنا حلان، أحدهما بناء على مرسوم بقانون بإقالة القيادات واعتبار مناصب رؤساء الجامعات شاغرة، وكان هذا هو الخيار الذى تم الشغل فيه أيام الدكتور عمرو عزت سلامة، وحين وصلت وجدته مرفوعا لدى المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ولكننى شعرت أنه لو صدر فسوف يكون له تأثير سلبى على العملية التعليمية، لأن الجامعات لها طابع خاص، ولابد أن تكون مستقلة فى اتخاذ القرارات، وبالتالى رأيت الأفضل أن يستقيل رؤساء الجامعات والعمداء برغبتهم حفاظاً على كرامة الأستاذ الجامعية.
هناك مجموعة قبلت، ومنها الدكتور حسام كامل فى جامعة القاهرة، والدكتور محمود الطيب فى جامعة حلوان، وآخرون، وقد أثروا من ناحيتهم على العمداء فى جامعاتهم فوافقوا، بينما هناك مجموعة أخرى رفضت مثل عين شمس والإسكندرية، وكان رأيى أن نحترم رغباتهم، لأن رئيس الجامعة إن لم يستقل فالقانون يحميه، ونحن نعمل فى إطار قانون تنظيم الجامعات بصرف النظر عن عدم قناعتنا به وضرورة تغييره وإعادة النظر فيه، ولكن فى نهاية المطاف هو القانون السائد، ولابد أن نحترمه مادام قانون أعلى لم يصدر، وأن نقنع رؤساء الجامعات بالاستقالة لأن الرغبة فى التغيير قوية، وسوف نغالط أنفسنا لو تجاهلناها، وقلنا فلتبق القيادات فى مواقعها ببعض الإصلاحات، يعنى كان من الواضح أن هناك رغبة بالتغيير الكلى.
ومع ذلك فقد قلت للمجموعة التى تمسكت بالبقاء سوف نقف معكم بشكل ما من الناحية القانونية، ولكننى أحذركم لأنه من الصعوبة بمكان أن تستمروا، وهذا ما جرى.
كانت رؤيتهم أن بقاءهم حفاظ على استقلال الجامعة، وأن استقالاتهم ستحدث فجوة كبيرة تصعب معها إدارة الجامعة فى العام القادم، ومن ثم نحن نريد أن نستمر فى قيادة الجامعة، خصوصاً أنهم عانوا لأربعة أشهر سابقة وتعرضوا لمشاكل كثيرة.
حاولت إقناعهم بأن الاستقالة أفضل للجميع، فوافق نصفهم على الاستقالة واستمر النصف الآخر، وقد خلق ذلك مشكلة كبيرة لأننا اضطررنا لعمل انتخابات جزئية، «فهناك من بلغ الستين، وهناك من استقال طواعية، وهناك من لم يستقل»، وضمن المشاكل التى واجهتنا بعد بدء الدراسة، والضغوط التى مارسها الطلاب وبعض تيارات أعضاء هيئة التدريس طلباً لاستقالة من لم يستقل، وقد تحقق هذا فى جامعة عين شمس بعد أسبوع من الدراسة، وتحقق فى جامعة الإسكندرية بعد أسبوعين، حين جاءت الاستقالة التى طالبناهم بها، ولكن بضغوط من الطلاب وأعضاء هيئات التدريس.
> هل تعتقد أن الحياة الجامعية تم تسييسها أكثر مما ينبغى، وهل يخدم ذلك التسييس المناخ الجامعى، وما نوع التعليقات التى تأتيك على مواقع التواصل الاجتماعى سواء الشخصى أو موقع الوزارة، وسواء من الكوادر المعلمة أو الكوادر المتعلمة؟
- هناك تيار من الأساتذة الكبار والقدامى مثل الدكتور محمد غنيم، رفضوا تماماً فكرة الانتخابات، وقالوا لا يوجد شىء فى الجامعة اسمه انتخابات، فيما الدكتور محمد أبوالغار وافق على الانتخابات بحماس، ثم انقلب عليها رافضا.
> لماذا؟
- لا أعرف.
> لا.. لابد أن تعرف فأنت الوزير وليس أنا؟
- لقد اجتمع بى هنا ومعه مجموعة من «9 مارس»، وطالبوا بالانتخاب، وقلت لهم هل تقبلون نتيجة الانتخاب، فقالوا نقبلها ونحن مع الانتخاب، ثم - فيما يبدو - راجع د. أبوالغار نفسه وبدأ يهاجم ذلك التوجه، بعدها اتفقنا على الانتخابات الحرة المباشرة.
هناك انتخابات للقيادات فى بعض الجامعات فى بعض الدول على الرغم من اعتراض د. غنيم.
> ولكنها ليست دولاً بارزة على مستوى التعليم العالى، فإيطاليا التى تضرب حضرتك المثل بها ليست مهمة فى ذلك المجال.
- بالطبع ليست الأحسن، ولكن - على أية حال - إذا تم الإقرار بالانتخابات كمبدأ، فلابد من وجود لجنة للمفاضلة - كما قلت لك - تضع المعايير، وتعد قائمة موجزة تجرى بينها العملية الانتخابية.
> إذن كيف تقر بالانتخاب المباشر قبل التعيينات القادمة.. ولا تقر بالمفاضلة؟
- القرار الذى صدر ينص على أننا فى مرحلة انتقالية مؤقتة، وأن ما يتم فى تلك المرحلة ينبغى مراجعته خلال العام الدراسى، وأرجو خلال العام الدراسى أن يحكم العقل والمنطق قراراتنا، ونقيم التجربة، وسيكون أفضل لنا، لأننا قمنا - بالفعل - بتجربة انتخاب حر مباشر كاملة، ونريد تقييمها ومعرفة مساوئها ومحاسنها ونسعى- فى إطار قانون تنظيم الجامعات الجديد- إلى اختيار الآلية الأفضل.. وعلى فكرة نحن لم نغير فى قانون تنظيم الجامعات حتى الآن، ولم نخل به على أى نحو.
أما عما يصلنى على موقعى الشخصى للتواصل أو موقع الوزارة، فهو يتعلق بآراء أعضاء هيئة التدريس من حيث انقسامهم حوله أسلوب الانتخاب المباشر الحر، سواء رضينا عنه أو لم نرض، وعن أن نتيجة الانتخابات جاءت - مرة أخرى - بعدد غير قليل من القيادات السابقة، وهل يؤدى ذلك إلى تحقيق غرض التغيير أم لا؟ ولكن النقطة الثالثة- فى الحقيقة - التى تقلقنى فيما يرد لى من رسائل، هى الدور المتزايد للطلاب فى عملية الانتخابات، خصوصاً فى الفترة الأخيرة التى بدأت بعد انطلاق العام الدراسى، إذ لم تتم انتخابات رؤساء الجامعات فى بعض الجامعات إلى الآن، لأن الطلاب أحاطوا بالمبانى المخصصة للمجمع الانتخابى، ومنعوا دخول الأساتذة، ومن دخل لم يخرج، وكذلك ما جرى فى المنصورة حين حرك بعض أعضاء هيئة التدريس طلابهم ليضغطوا ضد العمداء الذين لم يستقيلوا ويطلبوا منهم الاستقالة ويجبروهم عليها، وما حدث فى جامعة سوهاج أخيراً حين أحاط الطلاب بالمبنى الرئيسى، ودخل أساتذتهم إلى العمداء الذين لم يستقيلوا، وقالوا لهم إذا لم تتقدموا باستقالاتكم فوراً فسنترك الطلاب يتصرفون معكم بما يرونه.
وأنا أخشى أن مثل تلك السلوكيات ستهز صورة الأستاذ الجامعى.
> الدور المتزايد للطلبة فى هذه العملية يؤدى - فعلاً - إلى هز صورة الأستاذ الجامعى، ولكننا يجب أن نعترف بأن ذلك الدور المتزايد للطلاب كان بسبب عدم وجود قنوات أخرى يعبرون بها عن رأيهم فى أى موضوع داخل الجامعة؟
- هذا صحيح، وفى المرحلة القادمة لابد أن يكون هناك انفتاح سياسى بالنسبة للطلاب، وأردنا أم لم نرد لابد أن تكون هناك سياسة فى الجامعة.
وقد بدأ الطلاب- بعد الفصل الدراسى الثانى- ممارسة السياسة، وانطلقوا فى عقد لقاءات على مستوى عال مع الضيوف، ومناقشة الدستور أم الانتخابات أولاً، وغيرها من القضايا.
الآن أيضاً صار للطلاب حركة منظمة، فعندما اندلعت الثورة استقال رؤساء اتحادات الطلاب، وأعيد الانتخاب بشكل أكثر شفافية وديمقراطية، والآن بعد ستين يوماً من بدء العام الدراسى، سنجرى انتخابات جديدة مبنية على المناخ السياسى الجديد، يعنى الطلاب- فى هذا السياق- لديهم رغبة شديدة فى المشاركة السياسية، وفى تنمية خبراتهم السياسية.
> هل السياسة فى الجامعة هى مجرد المشاركة فى انتخابات اتحادات الطلاب، أم أنك تفكر فى شىء أعقد من هذا مثل التعليم السياسى داخل الجامعة؟
- أفكر فى التنمية السياسية، فلدينا- مثلاً- فى الحكومة الدكتور على السلمى، نائب رئيس الوزراء، المسؤول عن التنمية السياسية والتحول الديمقراطى، وهناك جزء غير قليل من اختصاص نائب رئيس الوزراء فى التنمية السياسية ينبغى أن يتعلق بالجامعات والشباب، إذ لابد أن ننمى القدرات السياسية والفهم السياسى، والمشاركة على مستوى الطالب الجامعى.
لابد أن نؤهل الطالب لكى يلعب دوراً سياسيًا، ولكى نحل مشكلة الفراغ السياسى الموجود، فنحن عشنا منذ زمن طويل نقول ماذا نفعل لو غاب مبارك، وماذا نفعل لو رحل صفوت الشريف، يعنى كنا فى فراغ سياسى حقيقى، وهذا يتطلب أن يتم تدريب الطالب فى الجامعة منذ بداية البدايات سياسيًا، ويؤهل بالكامل.
> ما هى علاقتك بـ9 مارس؟!
- تم انتخابى لفترة ست سنوات عضو مجلس إدارة نادى أعضاء هيئة التدريس بجامعة القاهرة، وأنت تعلم أن الفترة السابقة التى غابت فيها السياسة عن الجامعة حفلت نوادى هيئات التدريس بأنشطة سياسية، واكتسبت من ذلك العمل خبرات كبيرة، ووقتها كان الإخوان المسلمين يمثلون الأغلبية، وعلى الرغم من حصولى على أغلبية الأصوات لم أشغل منصب رئيس مجلس إدارة النادى لانشغالى، ورأسه د.عادل عبدالجواد وهو من الإخوان المسلمين.. كان الدور السياسى حاضرًا جدًا فى الأندية المنتخبة، أما الأندية المعينة فلم يك لها أى نشاط سياسى، ونادى جامعة القاهرة بالذات كان له نشاط سياسى وقيادى علمنى الكثير عن مطالب أعضاء هيئات التدريس واتجاهاتهم السياسية.
> هل يزورك أعضاء «9 مارس» ويتناقشون معك؟
- طبعًا.. وأنا على صلة دائمة بالدكتورة عواطف عبدالرحمن، والدكتور محمد أبوالغار وآخرين.
وعندى صلات نشطة بالإخوان المسلمين، ونتواصل لحل بعض المشاكل فى الجامعات، لأن أحيانًا تحدث تعقيدات فى موضوع أو آخر بجامعة معينة وأقوم بحلها عن طريق الاتصال بقيادات الإخوان الجامعية «وليس قياداتهم العليا» وأطلب منهم أن يتدخلوا لحل هذه المشكلة.
> هل تعتقد أن ذلك التغيير الديمقراطى فى الحياة الجامعية كان بالخصم أو الانتقاص من سلطة الوزير.. يعنى أصبحت مضطرًا أن تجلس لتتكلم مع هذا وذاك قبل أن تصدر قرارًا أوتعلن سياسة؟
- فى وزارة التعليم العالى- بالذات - دور الوزير هو وضع الاستراتيجيات والتنسيق، فالوزير ليس له سلطات قوية لأن الجامعات لها استقلالية فى اتخاذ القرار السياسى أو الإدارى بشكل كبير، وصحيح هناك المجلس الأعلى للجامعات، الذى تتزايد قوته مع الوقت «وأنا أحاول تقليل هذا التوجه ولست معه»، ولكن دور الوزير فى النهاية تنسيقى وتوجيهى أو إشرافى، وله دور فى وضع الاستراتيجيات القومية من خلال المجلس الأعلى للجامعات، إذن طبيعة عمل وزير التعليم العالى لا تجعله قويًا فى اتخاذ القرارات، فليس هو الذى يصدر القرار بالدرجة الأولى، ولكنه يوجه إليه.
إذن الحالة الديمقراطية فى الجامعة لم تنتقص من صلاحيات الوزير. فى الفترة السابقة كان الأمر مختلفًا لأن اتخاذ القرار كان يتم بالتشاور والمشاركة مع مجموعات معينة مرتبطة بالنظام، الآن اتخاذ القرار تتلاقح فيه آراء كل المجموعات السياسية والفكرية على نحو موسع، وبحوارات صاخبة وعميقة، فأصبح عمل الوزير صعبًا على ذلك النحو لأنه مضطر لأن يسمع الإخوان المسلمين والسلفيين و9 مارس، والحركات مثل «حرية الجامعات/ عين شمس» وغيرها.
> وإن اختلفتم فلمن أرجحية الرأى؟
- الديمقراطية هى الغالبة.
> ماذا تعنى بذلك؟
- يعنى أنا - مثلاً - كنت أميل لفكرة «لجنة مفاضلة» قبل انتخابات القيادات الجامعية لكى يتم الانتخاب بين قائمة قصيرة يتم ترتيب الأسماء فيها بحسب مدى استيفائها المعايير، ولكننى انصعت للديمقراطية وسرت مع اتجاه الأغلبية التى أرادت الانتخاب الحر المباشر.
> ولكن هناك موضوعات لا ينفع فيها هذا الأسلوب؟
- بالطبع.. هذا صحيح، وعندما نرى أن المنظومة الجامعية سوف تتأثر سلبًا، نتخذ - فورًا - قرارًا ونتحمل مسؤوليته، ولكن حرية حركتى لا تكون إلا من خلال المجلس الأعلى للجامعات، أما فى الوزارات الأخرى فإن قرار الوزير - إلى حد كبير - مباشر وإطلاقى.
وفى إطار حديثنا عن الانتخابات ومقرطة الحالة الانتخابية أريد أن أذكر لك - هنا - بعض المؤشرات الرئيسية لتلك الانتخابات، فقد تم تعيين تسعة رؤساء جامعات من جانب المجلس الأعلى للجامعات، باعتبارهم الأوائل فى التصويت، ولم يحدث تدخل من المجلس الأعلى للجامعات، ونحن سعداء بذلك، ولكن بالطبع تم الرجوع إلى الرقابة الإدارية بشأن اسم كل منهم وذلك أمر طبيعى، احترم الجميع اختيار الصندوق وتصويته.
وأريد أن أقول إن الانتخابات - على الرغم من ظهور بعض المؤشرات السلبية فيها - كانت مليئة بالإيجابيات ومنها حجم المشاركة السياسية إذ كنا نجد المشاركة محدودة جدًا فى نوادى أعضاء هيئة التدريس، أما انتخابات القيادات فشهدت مشاركة كبيرة، وكان الاحترام فى الجامعات المصرية الأساسية شديدًا للعملية الانتخابية، واحترم الإخوان المسلمين و9 مارس كل التيارات الأخرى، وأعتقد أن تلك الانتخابات شهدت ظاهرة صحية حين وجدنا جزءًا من الذين تم انتخابهم يمثل أسماء جديدة، وجزءًا آخر يمثل أسماء أعيد انتخابها، إذ كان بعض هؤلاء القدماء انتموا للحزب الوطنى السابق على نحو شكلى بحكم وظيفتهم القيادية، كما أن فيهم من أنجز على نحو لافت ومؤثر، وكمثال فإن جامعة القاهرة دخلت أخيرًا ضمن الخمسمائة جامعة الأفضل عالميًا، وفقًا لما يعرف باسم تصنيف شنغهاى، ووصلت جامعات القاهرة، وعين شمس، والإسكندرية، والجامعة الأمريكية إلى تصنيف إنجلترا.
والنقطة الأخيرة الإيجابية التى أحب ذكرها عن انتخابات القيادات، أن أعضاء هيئة التدريس اختاروا بحرية كاملة، فهم يرون المناخ السائد، ومع ذلك انتقى بعضهم القيادات السابقة، فلو لم يكونوا موضوعيين، أو لو غابت عنهم المعايير، لاختاروا أسماء جديدة بصرف النظر عن أى شىء، يعنى انحازوا إلى منطق التغيير وخلاص.
> ربما خاف الأساتذة من «البهدلة» يا سيادة الوزير؟
- التجربة أمامنا تؤكد أن شيئًا لم يستدع الخوف، ولابد أن يفهم الجميع أن المستقبل لن يسمح لأحد - بعد ذلك - بالانزواء السياسى، والجميع كانوا محترمين بما لا يقاس.
الانتخابات كانت حالة إيجابية جدًا ولم تفرز - كما توقع البعض - قيادات تسىء إلى العمل الجامعى، أو تؤدى إلى تدهور العملية الانتخابية.
البحث العلمى
> البحث العلمى يعنى «التمويل» فى المقام الأول..
كيف يمكن أن أتقدم بالبحث العلمى فى مصر فيما موازنته رثة ومليئة بالخروق وتبلغ 1/20 من حجم موازنة البحث العلمى الإسرائيلية، بما يعنى أننا سنحقق واحدا على عشرين مما حققوه، وسنة وراء أخرى سيتراكم الفارق وتتسع الفجوة وحضرتك تعلم قواعد الإحصاء أكثر منى.. ثم ما الذى فعلتموه لتعظيم العلاقة بين البحث العلمى والجامعات والمراكز البحثية، أو لربط الأبحاث العلمية باحتياجات المجتمع، وكيف يتم التحرك على كل هذه المسارات فيما الميزانية تلاتة تعريفة؟!
- أتفق معك أن الإنفاق على البحث العلمى وعلى التعليم أيضًا متدن لا شك فى هذا، فالإنفاق على التعليم العالى تراجع من 1.2% من الناتج القومى المحلى إلى 1.03%، فهو ليس - فقط - لا يتحسن ولكنه يتراجع، والإنفاق على البحث العلمى هو 0.4% من الناتج المحلى وهو - بأى معيار - فقير جدًا، والمفروض ألا يقل عن 2% لو أردنا تحقيق تقدم فى هذا السياق.
البحث العلمى ليس قضية ترفيه، لكنها حيوية ومهمة، والدراسات الأخيرة أوضحت أن التركيز فى الفترة السابقة كان على فجوة الدخل والثروة بين دولة وأخرى، وزاد عليها فجوة العلم والمعرفة والبحث العلمى، إلى جانب الفجوة الرقمية التى تتعلق باستخدام الموبايلات والحواسب.
وأجريت بحوث على مستقبل الإنسانية وجدت أن الخطورة ليست فى فجوة الدخل والثروة ولكنها فجوة العلم والمعرفة، وهى تتسع على نحو متسارع، وسوف يؤدى اتساعها إلى التأثير على الدول النامية المتأخرة فى مجال البحث العلمى، ولكنها ستؤثر أيضًا على الدول المتقدمة، وأن مستقبل الإنسانية سيكون فى خطر إذا لم نواجه تلك الفجوة.
أما النقطة الثانية - فقد ثبت فيها - بالدليل العقلى والدراسات الإحصائية - أن الربط بين تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والبحث العلمى أصبح مباشرا وصريحا، وأن دولة ما لا تنمو أو تحقق معدلات عالية فى التنمية الاقتصادية إلا وتكون متقدمة فى البحث العلمى.
البحث العلمى مرتبط بالتعليم لأن الكوادر البشرية المتعلمة هى التى ستقوم بالبحث العلمى، وفى بنية أساسية مؤسسية جديدة تعتمد على المنتجعات البحثية Research - parks المرتبطة بالجامعات والتى تحول نتيجة أبحاثها إلى الصناعة.
إذن قاطرة المستقبل والانتقال إلى مجتمع المعرفة وتحقيق التنمية الاقتصادية وردم الفجوة - لا جدال - تعتمد على البحث العلمى، وبالتالى لو لم نعط هذا المجال الاهتمام الكافى فسوف نتخلف، وعلينا أن نواجه تبعات هذا التخلف فى كل مجالات حياتنا «من زراعة وصناعة وصحة وإسكان وغيرها»، ومن ثم فإن المرحلة القادمة ينبغى أن تتسم بدرحة عالية من الأولوية للتعليم والبحث العلمى، وأعتقد أن هناك قناعة مصرية بهذا، ولكن الظروف الحالية والموازنة الحالية تمر بصعوبات كبرى، وحضرتك تعلم.
> أنا لا أتحدث عن الحجم العددى فقط، ولكننى أطرح الإمكانية والدور، والتوزيع الجغرافى، والتخصص النوعى يا سيادة الوزير؟.
- لكى نقيم مائتى جامعة أو نحشد قدرات تعليمية تساويها نحتاج إلى جامعات أهلية غير هادفة للربح، وليست جامعات خاصة تهدف إلى الربح وتعتصره من أموال الطلاب وأولياء أمورهم فى بلورة حقيقية - كذلك - لمفهوم انعدام تكافؤ الفرص لأن مئات الآلاف من طلابنا لا يقدرون على الوفاء بمصروفات مثل تلك الجامعات، يعنى فى الجمعات الخاصة إهدار لأحد أنساق العدل الاجتماعى الأساسية، والمفترض أن ذلك العدل الاجتماعى هو ما قامت ثورة يناير من أجله.
عندنا رأسمالية جاهلة وأمية وغير مثقفة، ليس - فقط - لأنها لا تنفق على البحث العلمى فى شركاتها ومصانعها وبالتالى صار كل عبء البحث العلمى على عاتق الجامعات، ولكن لأنها لا تمول ما هو غير قابل للربح من الهيئات التعليمية.. وأولوياتها تبنى على الربح والربح الكثير فى كل ما تقيمه، والشىء الأخطر أننا الآن فى وقت ضُربت فيه الفعاليات الاقتصادية لهذه الرأسمالية ولم يعد فى أچندتها شىء عن الجامعات والاستثمارات طويلة الأمد.
نحن فى وضع يفرض وجود دور من جديد للدولة فى إقامة وتطوير الجامعات.. كيف نقوم بتطوير جامعة القاهرة لتصبح عدة جامعات حديثة مثل «باريس - 1» و«باريس - 2» و«باريس - 3» مثلاً؟
أنت طرحت عددا كبيرا من القضايا، وأنا أتفق معك أننا فى عصر تنوع مؤسسات التعليم العالى وليس فقط الجامعات «حكومية - خاصة - أهلية» ولكن التعليم المفتوح يعد هو الآخر مؤسسة، والتعلم مدى الحياة يعتبر مؤسسة، والتعليم الفنى يعد إحدى وسائل التعليم كذلك.. وحتى المؤسسات غير الجامعية أكثر نجاحًا لأنها تمنح شهادات قريبة من متطلبات السوق.
التنوع مطلوب ولكن التنوع الحالى ربما لا يخدم أغراض نشأة الأنساق التعليمية الجديدة.
الجامعات الحكومية صارت مكتظة بالطلاب، وإمكانات التمويل الحكومى تراجعت إلى حد بعيد وبما أدى إلى أمرين، أولهما مطالبة الجمعات الحكومية بأن يكون لديها تنوع مصادر التمويل، إذ تقول الحكومة لإحداها - مثلاً - سوف أمول لك 70% من الاستثمارات، وعليك تمويل 30%، وعليك خلق برامج خاصة للتمويل الذاتى، وشعب لغات وأشياء من ذلك القبيل، وقد حدث ذلك بشكل عشوائى يحتاج إلى مراجعة.
لكن إلى جانب هذا لابد أن تلعب المؤسسات الأهلية والخاصة دورًا فى سد النقص وكذلك المعاهد العليا أيضا، وهى الكارثة التى ينبغى إعادة النظر فى دورها، لأنها مهمة جدًا ويمكن أن تقوم بأشياء أساسية وهى منتشرة على مستوى الجمهورية فى تخصصات معينة مثل «معهد عال لتكنولوچيا الإدارة» وهكذا، وعددها يصل إلى مائتى معهد عال تعطى درجات البكالوريوس والليسانس يجب أن يعاد تنظيمها والتأكد من أنها تغطى احتياجًا فعليًا.
لابد أن نستكمل منظومة التعليم العالى، وأن تلعب الجامعات الحكومية والخاصة دورها فى ذلك من حيث العدد أولاً، وسبب عدم استكمالها عدديًا أن الشريحة الاجتماعية التى تطيق الدخول للجامعات الخاصة محدودة لزيادة الرسوم الدراسية، ولما حسبنا أعداد الحاصلين على الثانوية العامة «375 ألفًا» لم نستطع أن نوفر - رغم الطلب الكبير - إلا 25 ألف مكان فى الجامعات الخاصة.
إذن تلك الجامعات لا تستكمل الطاقة الاستيعابية فى التعليم العالى الحكومى بطريقة محسوسة، بسبب مصروفاتها الباهظة، وربما كان ذلك بسبب أننا لا نستطيع فرض أى شىء بالنسبة لمصروفات تلك الجامعات وفقًا للقانون.
> ولماذا لا يتغير ذلك القانون بالذات؟
- المفروض أن يتغير.. ولكن حتى الآن لنا دور بالنسبة للجامعات الخاصة فيما يتعلق بالجودة، وفى اختيار الأعداد التى تلتحق بالجامعة الخاصة، وإذا لم يكن لديها إمكانات لا أسمح لها سوى بأربعمائة أو خمسمائة طالب، لكن ليس لى دور فى تحديد الرسوم.
> ينبغى أن يكون لسيادتك دور فى أمرين.. الأول هو ما يتعلق بهذا القانون، ويجب أن تقدم سيادتكم تلك المطالبة المتعلقة بتغييره لكى يبيت لك دور فى تحديد المصروفات، والشىء الثانى الذى يفترض وجود دور لكم فيه هو موضوع التعليم قبل الجامعى، لأنك مهما كلمتنى عن التنسيق بين الوزارات والعلاقات الودودة والتراضى والتوافق ما بين وزير التعليم العالى ووزير التربية والتعليم فإن المنتج البشرى الذى يجيئك إلى الجامعة إن لم يجئ بحد أدنى من الجودة فلن يكون لعملك معنى.
-التنسيق على مستوى عال بينى والدكتور أحمد جمال الدين وزير التربية والتعليم، والمفروض أن يكون قويًا جدًا، وأن يحدث تبادل نشط ومفيد بين الوزارتين.
> هل هناك ضرورة لوجود وزارتين تمثلان منظومة التعليم المصرية؟
- سوف يكون العبء كبيرًا، ولاسيما أننا - الآن - ألحقنا وزارة البحث العلمى بالتعليم العالى بسبب العلاقة العضوية بين المجالين، فمن غير المعقول دمج وزارة ثالثة.
> ولكن فى الخارج هناك ما يسمى وزارة سوبر تضم - أحيانًا - وزارتين أو ثلاثا أو أربعا؟.
- ليس عمليًا فى بلد مثل مصر القيام بذلك الدمج وإلا لو ضممنا كل وزارة لها علاقة بالتعليم العالى فسوف يشمل ذلك عددا كبيرا من الوزارات ضمنها المالية «يضحك» لأحصل على مخصصات أكبر.
لابد أن يكون هناك تنسيق على مستوى كبير بين وزيرى التعليم والتعليم العالى، وهو الحاصل بشكل رائع، ولكن ما أتفق معك فيه أن المدخل إلى التعليم العالى من التعليم قبل الجامعى لابد أن يكون على مستوى يسمح بتطبيق البرامج التى نستهدفها.
وأعود لموضوع تطوير الجامعات فأقول إن ارتفاع الرسوم قصر الجامعات الخاصة على شريحة مجتمعية معينة، وأرى أنهم لو خفضوا الرسوم سيدخل إليهم طلبة أكثر ويعوضون النقص المالى الذى يسببه هذا الخفض ويغطون شريحة أكبر من المجتمع، وسأسعى إلى التفاوض مع الجامعات الخاصة لخفض الرسوم.
ولكن أملى كبير فى الجامعات الأهلية التى لا تهدف - بتاتًا - إلى الربح ولا توزع أرباحا على أعضاء مجلس الأمناء.
> وهل أملك كبير أيضًا فى القوى الرأسمالية الجديدة فى مصر أن تتحلى بهذا الوعى وتقيم جامعات لا تهدف إلى الربح؟
- هناك عدد غير قليل تقدم، ولكننى لم أدرس الطلبات بعد، أو أعرف إلام سوف تفضى.
ولك أن تعرف، أن الحكومة تدعم من ينشئ جامعة أهلية فتعطيه أرضًا بسعر فائدة مخفض، ويمكن أن تدعمه عينيًا، وبالتالى ربما يدفع ذلك بعض الناس إلى الإقبال على إقامتها.
مصروفات ورسوم الجامعات الأهلية سوف تكون أقل بكثير من الخاصة، وبما سيخلق مناخًا تنافسيًا بين الجامعات الخاصة والأهلية بما يسمح بمزيد من تخفيض الرسوم، فالمنافسة - تقليديًا - تؤدى إلى انخفاض الأسعار أو الرسوم «بمفهوم الخدمة الجامعية».
ولكننى أريد القول بأن أى مستثمر يدخل إلى ساحة التعليم هو ذو طبيعة خاصة، ومن لا يفهم ذلك يفشل.
فمعدلات الربحية فى مجال التعليم والمشاكل المرتبطة بها، تختلف - كلية - عن نظائرها فى مجال استثمار صناعى أو تجارى ويجب أن يكون ذلك مفهومًا لأصحاب الجامعات.
> ذات حديث بينى وبين الدكتور أحمد زويل منذ عشر سنوات فى تمشية بچورچ تاون فى الولايات المتحدة الأمريكية كلمنى عن مشروعه لإنشاء جامعة فى مصر تكون بمثابة «Center - of excellence» أو مركز تفوق مثل جامعة «كالتاك» التى أجرى بها بحوثه عن «الفيمتو ثانية» وهو مشروع زويل للنهضة العلمية، وقال لى إنه يجىء إلى مصر ويقابل كبار المسؤولين ويستمعون له ولاشىء يتحقق وهم يقابلون المشروع بقدر من التشكك.. ما هى الضرورة التى دفعت بالفكر الإدارى المصرى بعد الثورة إلى الانتقال بالفكر الإدارى المصرى نحو ذلك المشروع وعلى نحو إيجابى بعد الثورة؟!
- تحركنا ليس إيجابيًا فقط، ولكنه إيجابى جدًا. وأنا لا أعرف الأسباب التى أخرت المشروع فى العهد السابق، فالفكرة أساسًا تقوم على أن زويل شخصية عالمية حصلت على جائزة نوبل، ومن خلال وجودها فى مصر وقبولها العالمى، تستطيع تكوين مراكز بحثية فى مصر، ومن خلال علاقاتها تمويلاً وتجهيزًا والمشاركة العلمية من علماء مرموقين كثيرين.
> موضوع التعاون مع إسرائيل فى هذه الجامعة ألا يمثل عقبة أمام الرأى العام؟
- حتى الآن لم يجئ ذكر لشىء من هذا فى الحديث مع د.زويل.
> أنا سألته مباشرة وكانت إجابته ببساطة - فى حوار منشور فى الأهرام ومطبوع فى كتابى «على ضفاف الثقافة»- أن العلم ليس له وطن!
-صحيح أن العلم ليس له وطن، ولكن هناك عوامل سياسية حاكمة، ومسألة قبول الدور الإسرائيلى أو التعاون مع إسرائيل فى هذا المجال أمر صعب، فالصراعات التاريخية الطويلة والدور الإسرائيلى فى المنطقة مسألة صعبة النسيان أو التجاهل.
هذه المرة أخذ د.زويل كل الصلاحيات والمفروض أن ينجز شيئًا، إذ صدر أخيرًا قرار من مجلس الوزراء بإنشاء الجامعة، كما التقى د.زويل بالمشير طنطاوى وأخذ دفعة كبيرة لتحقيق هدفه.
مشروع زويل هو عبارة عن مجموعة من الدوائر تتسع باطراد، وهو يريده مشروعا قوميا وأنا أكدت له هذا المفهوم، أى يدعم البحث العلمى ولكن مع وجود آخرين يدعمون.
وهو يبدأ بالدائرة الرئيسية «الكور الرئيسى» وهو عبارة عن جامعة بحثية تكنولوچية تقدم خريجين سوف يكونون حوالى خمسة آلاف بحد أقصى من المتخصصين فى علوم المستقبل، ويحيط بتلك الدائرة مجموعة من المراكز البحثية المتخصصة كذلك فى علوم المستقبل «النانو تكنولوچى» و«البايو تكنولوچى» و«الطاقة المتجددة» يعنى خريجو الجامعات يغذونها، وهى تغذى خريجى الجامعات من خلال البحوث وتطوير الدراسات العليا، وبعد ذلك أعطيته فكرة استكمال ذلك بما يسمى: «Technological - park» أو الحديقة التكنولوچية التى سماها هو الهرم التكنولوچى، وهى التى تربط نقل التكنولوچيا إلى السوق من خلال اتصال الشركات، والأهم من ذلك أن هذا المركز القومى الذى سيحقق له د.زويل تمويلا كبيرا جدًا، يرتبط - عن طريق شبكة «Satellite - Points» - بكل المراكز البحثية فى مصر «المركز القومى للبحوث - مركز الفلزات»، ونحن نختار الآن تلك المراكز التى سترتبط بالدائرة الأم، يعنى نحن بصدد مشروع له دور قومى هام، ويجب ألا يلغى القائم، فلدينا تصور أن نستفيد من شباب جامعة النيل فى دعم معهد تكنولوچيا المعلومات «Institute - of - informatino - Technology» الموجود فى منظومة زويل للدراسات العليا.. يعنى طلبت من العالم الكبير أن يستفيد من البنية العلمية والتعليمية الأساسية فى مصر ولكى لا نبدأ من جديد فى كل شىء.
إدارة وبعثات.
الموضوع : وزير التعليم العالى يكشف فى حواره لعمرو عبدالسميع..أسرار الدور المصرى فى التصويت على عضوية فلسطين فى اليونسكو وكواليس الانتخابات الجامعية..و ألمانيا وهولندا قادتا التحرك ضد قرار عضوية فلسطين المصدر : منتديات اضواء الاسلام الكاتب: مهـ مع القرآن ـاجر توقيع العضو/ه :مهـ مع القرآن ـاجر |
|