لما كانت العلاقة بين الحاضر والمستقبل مترابطة، لأن المستقبل إنْ هو إلا امتدادٌ للحاضر، ولأنّ الماضي والحاضر والمستقبل وحدة لا سبيل إلى انفصامها، ومعرفة الماضي هي وسيلتنا لتشخيص الحاضر، ولتنظيم المستقبل، فإن بناءنا لأسس استراتيجية المستقبل لابد أن ينطلق من الفهم الواعي لحاضر اللغة العربية، إحاطةً واستيعاباً، ويصدر عن البحث الدقيق في قضاياها ومشكلاتها، تمحيصاً ونقداً.
وبصورة عامة، فإن الاهتمام بالتخطيط للمستقبل اللغوي لأمة من الأمم، يعكس مستوى راقياً من الوعي بمتطلبات التغيير والتجديد وإعادة البناء على أسس ثابتة راسخة. ويعبّر التفكير في استشراف آفاق المستقبل واستطلاع آماده، عن نضج عقليّ يبلور إرادة ذاتية في الانتقال من طور إلى آخر على المستويين الخاص والعام، نحو بناء الذات، وترسيخ الكيان، وتقوية القدرات الكامنة في النفس وفي المجتمع.
ولقد اقترن البحث عن المستقبل بصورة عامة والتطلع نحوه دائماً، وفي جميع الأحوال، بإرادة البناء التي تتضافر فيها الجهود من أجل رسم خريطة هذا المستقبل، وصياغة ملامحه العامة، بما يؤكد على أن التوجه نحو الغد بالتخطيط المتقن، وبروح الثقة وعزيمة الإقدام وإرادة ردّ التحدّي، ظاهرة حضارية، ومسلك راقٍ من مسالك العمل العام، فضلاً عن أنه منهج علميّ لا يرقى الشك إلى جديته ونجاعته.
ولذلك فإن العناية ببحث مستقبل اللغة العربية في ضوء المتغيرات والظروف الحالية واستناداً إلى خلاصة التاريخ القريب، هي ظاهرة صحية تعبّر أصدق التعبير وأقواه، عن درجة عالية من التطور في فهم مقتضيات الحاضر ومتطلبات المستقبل. وتدلّ هذه الظاهرة على توجه سليم، سيؤدي لا محالة إلى نتائج إيجابية ستدعم خدمة لغة الضاد. بل هي ضرورة من ضرورات الرقي الحضاري.
إنَّ التفكير في مستقبل اللغة العربية قضية بالغة الأهمية، في الفكر العربي الإسلامي المعاصر، لها صلة وثيقة بسيادة الأمة العربية الإسلامية على ثقافتها وفكرها، وعلى كيانها الحضاري والسياسي والاقتصادي في المقام الأول، وعلى حاضرها ومستقبلها؛ فهذه (قضية سيادة) بالمعنى الشامل للكلمة، وليست مجرد قضية لغوية وأدبية وثقافية. ولذلك يمكن أن نقول بثقة واطمئنان، إن مستقبل اللغة العربية قضية (أمن قومي) بالمعنى السياسي والسيادي والجغرافي العام، وليس بالمعنى الجغرافي الوطني الإقليمي المحدود. لأن حياة الأمم في حياة لغاتها وقوتها وازدهارها، فإذا ماتت اللغة ـ واللغات تموت باعتبارها كائناً حياً ـ أو ضعفت أو انهارت، ضاعت الأمة ضياعاً لا يُبقي لها أثراً في الحياة.
أولاً : اللغة العربية في القرن العشرين :
عرفت اللغة العربية في القرن العشرين امتداداً واتساعاً في رقعة الناطقين بها، سواء من أبناء الوطن العربي، أو من شعوب العالم الإسلامي، أو من غير هؤلاء وأولائك، من الدارسين للغة الضاد لأسباب شتى من مختلف أنحاء العالم.
ويمكن أن نقول إن انتشار اللغة العربية في القرن الماضي ظاهرة غير مسبوقة في التاريخ، سَاعَدَ على ذلك الانتشار والتوسّعُ الكبير الذي عرفته البلدان العربية في إنشاء المدارس والمعاهد والجامعات، وظهور الصحافة التي كانت في أول عهدها مع نهاية القرن التاسع عشر وفي العقود الخمسة الأولى من القرن العشرين، مدارسَ شعبية للغة العربية، ثم ظهور الإذاعة التي كان لها إسهام كبير في نشر اللغة العربية في مختلف الأصقاع، من خلال نشرات الأخبار، والأحاديث الدينية، والبرامج الثقافية والأدبية، والمسرحيات التاريخية والاجتماعية، التي تقدم للمستمعين برامجها باللغة العربية ومن ضمنها المسلسلات التاريخية، والقصائد الغنائية الفصيحة لكبار الشعراء، فيتذوقها الجمهور ويفهمها. أما التلفاز فقد ظهر في مصر أولاً مع مطلع الستينيات، وهو له اليوم وظيفة أساس في نشر اللغة العربية على نطاق واسع. ويعزز هذا الانتشار للغة الضاد ظهورُ أقسام للغة العربية وآدابها في الجامعات العربية والإسلامية، وفي بعض الجامعات الغربية التي تهتم بتدريس اللغة العربية والثقافة العربية والحضارة الإسلامية، وازدهار حركة النشر باللغة العربية على نطاق واسع التي نشرت الكتاب العربي والصحيفة العربية والمجلة العربية، نشراً واسعاً ضاعف من ذيوع اللغة العربية في الآفاق.
ومع المكاسب الكبيرة التي حققتها اللغة العربية بهذا الانتشار الواسع والممتدّ أفقياً وعمودياً، فإن هناك جوانب أخرى للصورة ليست مما يطمأن عليه. فلقد صاحَبَ هذا الذيوع غير المعهود، فشو اللحن واستشراء الضعف والهزال في أحايين كثيرة، والخروج على قواعد اللغة الذي يبلغ حدّ الاستخفاف والاستهانة بالضاد وتجريحها والمس بكرامتها، لأن لكل لغة كرامة كما للكائن البشري، سواء بسواء.
وممّا يلاحظ في هذا السياق وجودُ تلازم بين الانتشار الواسع للغة العربية، وبين الضعف المطرد لمستواها على ألسنة المتحدثين، وعلى أقلام الكتاب، بل إن الضعف الذي تعرفه اللغة العربية منذ العقود الستة الأخيرة، وصل إلى الأقسام المتخصصة في الكليات الجامعية، كما وصل إلى الكتب التي يؤلفها أساتذة متخصصون، علمياً ومهنياً، في تدريس اللغة العربية. ضعف عام يستشري في اللغة على مستوى اللفظ وعلى مستوى الجملة وعلى مستوى السياق وعلى مستوى الصورة البيانية(1).
وقد وقفت على نصٍّ للدكتور طه حسين كتبه في سنة 1938م، يكشف فيه عن هبوط مستوى تعليم اللغة العربية في مصر في تلك الفترة، يقول فيه : » قد أتيح لي هذا العام (1938م) أن أقرأ بعض إجابات التلاميذ في امتحان القسم الخاص من الشهادة الثانوية، فرأيت عجباً، ولكنه عجب يملأ القلوب حنقاً وغيظاً. رأيت الفساد يُدخله درسُ النحو والبلاغة على أذواق الشباب في التعبير والتصوير، وفي صوغ اللفظ والملاءمة بينه وبين المعنى، وفي إرسال الكلام عن غير فهم، وإرسال الجمل التي حفظت عن المعلم والتي لم يفهمها المعلم حين ألقاها، ولم يفهمها التلميذ حين تلقاها، ولم نفهمها نحن حين صححناها«(2).
ولابد أن نسجل هنا أن ظاهرة تراجع اللغة العربية عن الارتقاء الذي كانت تسير في خطه قبل الخمسينيات من القرن العشرين، تعود إلى أسباب كثيرة، منها الضعف السياسي والفكري والثقافي الذي استشرى في المجتمعات العربية، وقد تمثل بالخصوص، في ظهور زعامات شعبية قيادية تخطب في الجماهير باللهجات المحلية، فإذا اقتضتها بعض المناسبات لقراءة ما يُكتب لها في الورق، أفسدت اللغة وأساءت إليها على نحو مريع، مما يتسبّب في إشاعة الخطأ، وفي هبوط مستوى اللغة العربية في جميع المجالات. بينما كانت القيادات السياسية الشعبية والنخب الفكرية والثقافية بوجه عام خلال النصف الأول من القرن الماضي، من حماة اللغة العربية المجيدين لها المتمكنين منها، بحيث كان الجمهور يتشرب اللغة، ويتجاوب مع بيانها، ويتذوق أساليبها، وينطبع في ذهنه وفي وجدانه اللفظُ الفصيح، فيصير يردده أو يكتبه، حتى ولو لم يكن حظه من التعليم موفوراً.
هذا التلازم بين ظاهرتَي (انتشار اللغة) و(انهيار اللغة)، يفرض نفسه على الباحث الدارس للتحولات العميقة التي عاشتها المجتمعات العربية خلال العقود الأخيرة، حتى يقع على العوامل التي أدت إلى نشوء هذه الظاهرة المجتمعية والثقافية.
لقد كان وضع اللغة العربية في النصف الأول من القرن العشرين وضعاً متميزاً؛ ففي تلك المرحلة أنشئت الجامعات التي فتحت فيها كليات للآداب كان الأساس الذي قامت عليه دراسة اللغة العربية وآدابها في المقام الأول، وفيها صدرت المجلات الأدبية الثقافية الراقية التي كانت منتدى لأقلام كبار الكتاب والأدباء والشعراء والباحثين في حقول اللغة والثقافة والأدب والفكر، والتي قام بعضها بعمل مهم في توثيق الصلات بين شعوب الأمة العربية، بل كانت مجلة مثل (المنار) لصاحبها الشيخ محمد رشيد رضا، تصل إلى المثقفين في أندونيسيا والصين وجنوب أفريقيا والشعوب الإسلامية في آسيا الصغرى وفي شرق أوروبا حاملة إلى القارئ نصوصاً راقية المستوى باللغة العربية. أما مجلة (الرسالة) لصاحبها الأستاذ أحمد حسن الزيات عضو هذا المجمع، فقد كانت تصل إلى بلدان المهجر في أمريكا اللاتينية ناقلة إلى جمهور المثقفين من قراء الضاد في تلك المناطق النائية، الأدب العربي والثقافة العربية. وفي كلتا الحالتين كانت اللغة العربية تحتلّ مواقع لها في أصقاع الشرق والغرب. وكذلك كان الحال مع مجلة (الفتح) لصاحبها محي الدين الخطيب التي كانت تصل إلى بلدان أوروبية وأفريقية وآسيوية بعيدة عن الوطن العربي. ولشدة تأثير هذه المجلة، كانت السلطات الاستعمارية في كثير من البلدان العربية الإسلامية تحظر دخولها إليها. كما كانت مجلة (المقتطف) التي استمرت في الصدور نحو سبعين سنة، تترجم الفصول والمقالات العلمية من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية، فتساهم بذلك في تطعيم اللغة العربية بالمفردات الجديدة وتطويعها لاستيعاب المضامين والمفاهيم الحديثة في العلوم المختلفة. وقد كان لهذه المجلة دور متميّز في نشر الثقافة العلمية باللغة العربية.
إنَّ القاسم المشترك بين هذه المجلات الراقية جميعاً، وغيرها من المجلات الأدبية والثقافية والإسلامية، هو المستوى الرفيع للغة العربية، الذي أسّس لنهضة أدبية وصحوة لغوية، وتطور فكري وثقافي كان يأخذ سبيله إلى التبلور في صيغة مشروع ثقافي فكري عربي يجدّد الحضارة العربية الإسلامية.
وفي تلك المرحلة تأسست مجامع اللغة العربية الثلاثة في دمشق (1918م)، وبغداد (1921م) ثم في القاهرة (1932م)، وكان تأسيسها لغرض خدمة اللغة العربية. كما حققت ونشرت في تلك الفترة، أمهات كتب التراث العربي الإسلامي وكانت حركة تحقيق التراث العربي الإسلامي ونشره قد بدأت في مصر في الثلث الأول من القرن التاسع عشر، وازدهرت واتسع نطاقها في العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين. وظهرت في تلك الفترة معاجم لغوية عربية جديدة، وشرع في وضع المعجم التاريخي للغة العربية، وإن كان العمل فيه قد تعثر ثم توقف في بدايته.
ومن المعروف أن عصر ازدهار اللغة العربية بدأ في النصف الأول من القرن العشرين، ولكنه سرعان ما خفت ضياؤه وخبا لمعانه، بما شاب الحياة العقلية والأدبية والثقافية من انحرافاتٍ وانعكاسات، بسبب ما استشرى من فساد عام نتيجة لتدفق موجات من الغزو الفكري والاجتياح الثقافي والاستلاب الحضاري، فضعفت اللغة العربية، وتراجع دورها في الحياة العقلية والأدبية، مما أدّى إلى ضعف مستوى التعليم في جميع مراحله، وإلى طغيان اللهجات العامية.
الموضوع : مستقبل اللغة العربية في عالم متغيّـر المصدر : منتديات اضواء الاسلام الكاتب: atefbbs