خصائص الشريعة الإسلامية
تبينت ممَّا سبق أهمية النظام في الكون والحياة وحاجةالبشر إلى ذلك، واتضح عجز الإنسان عن الإتيان بتشريع يتوافر له الشمول والكمال الذييكفل للإنسانية ما يسعدها وينسجم مع غاياتها العليا وحقيقة وجودها، وتبين بالأدلةضرورة الوحي الرباني وأهميته للاضطلاع بهذه المهمَّة، ومن أبرز ما يجلي ذلك هو ماوقع في تاريخ الإنسانية حيث كانت شريعة الله هي المنهاج الذي سلكه الرسل عليهمالسلام وأتباعهم على مر العصور حتى جاءت شريعة الإسلام فكانت – هي مسك الختام – كاملة لا يعتريها نقص، شاملة لا يلحقها قصور.
وفي هذا يقول الشاطبي: (إنَّ هذه الشريعة المباركةمعصومة، كما أنَّ صاحبها صلى الله عليه وسلم معصوم، وكما كانت أمته فيما اجتمعتعليه معصومة)، وساق الأدلة على ذلك، وصنفها على وجهين:
الأول: ما دلعلى ذلك تصريحاً أو تلويحاً، واستدل بآيات من القرآن الكريم كقوله تعالى: (إنا نحننزلنا الذكر وإنا له لحافظون)، وكقوله تعالى (كتب أحكمت ءايته)، وقوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)، واستدل علىهذا الوجه – أيضاً – ببعض أقوال السلف وما صاحب نزول الوحي على الرسول صلى اللهعليه وسلم وصونه عن تخليط الشياطين على الرسول صلى الله عليه وسلم واستراقهمالسمع.
الثاني: ما توافر للأُمَّة الإسلامية من وعي وفكر وعمل ونحوها مندواعي المحافظة على الشريعة والذب عنها بدءاً بعنايتها بالقرآن الكريم وعلومهوالسنة النبوية وعلومها، واللغة العربية وعلومها، وفي ذلك قال: (الاعتبار الوجوديالواقع من زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الآن، وذلك أن الله عز وجل وفردواعي الأُمَّة للذب عن الشريعة والمناضلة عنها بحسب الجملةوالتفصيل.
أمَّا القرآن الكريم فقدقيض الله له حفظه بحيث لو زيد فيه حرف واحد لأخرجه آلاف من الأطفال الأصاغر، فضلاًعن القراء الأكابر، وهكذا جرى الأمر في جملة الشريعة، فقيض الله لكل علم رجالاًحفظه على أيديهم).
وتختص الشريعةالإسلامية إلى جانب ذلك بخصائص كثيرة جعلت منها نظاماً يصلح لكل زمان ومكان ويعلواولا يعلى عليه، من أهم هذه الخصائص الآتي:
أولاً: تنبثق الشريعة في الإسلام من عقيدة التوحيدالخالص لله وترتبط بها وتلازمها؛لذلك فإنَّ ما سبق ذكره، من أنَّ الشريعة تطلق على مجموعةالأنظمة والقوانين إذا اتصفت بالانسجام لانبعاثها عن روح واحدة لا ينطبق إلا علىالشريعة الإسلامية عند التحقيق؛ لأنها صادرة عن الله وانبثقت من عقيدة التوحيد التيتميزت عن سائر العقائد برؤيتها الشاملة للكون والحياة ولا يمكن أن يتحقق الانسجامالتام في جميع النظم إلا في الشريعة الإسلامية، حيث لا يقتصر شمولها على تناولهاجوانب حياة الإنسان ديناً وآخرة - فحسب – بل ينسجم مع سياق النظام الشامل للكونوالحياة.
أمَّا من حيث ارتباطهبالعقيدة فإنَّ الآيات الواردة في تقرير أمور العقيدة كثيراً ما تناول قضية الحقوقوالواجبات والأخلاقيات والآداب مثل قوله تعالى: ﴿ ليس البر أن تولوا وجوهكم قبلالمشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيينوآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفيالرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساءوالضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون﴾.
قال بعضالمفسرين في تفسيرها: (دخل في ذلك حقوق الله كلها، لكون الله ألزم بها عبادةوالتزموها، دخلوا تحت عهدتها، ووجب عليهم أداؤها، وحقوق العباد، التي أوجبها اللهعليهم، والحقول التي التزمها العبد..).
وعندما ينطق المسلم: (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، (تأتي أهمية الشهادة الثانية خطورتها وضرورتها وهي محمد رسول الله، فمعناها عهد منالناطق بها على أنه يلتزم بالخضوع لله حسب ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فقط،ونبذ كل ما على الأرض من أساليب الخضوع لله كانت وضعية أو سماوية لأنَّ ذلك كلهباطل من ناحية، كما أنه من الناحية العملية لا يحقق إفراد الله تعالى بالخضوع، كمالا يحقق الخضوع التام اللائق بألوهيته تعالى، لذلك لا تنفصل الشهادتان عن بعضهما،فلو أخذ فرد أو مجتمع الشهادة الأولى: "لا إله إلا الله" وترك الثانية، لما كانموحداً ولما أفرد الله بالألوهية ولما قصر الخضوع له إلا قولاً فقط، وشأنه شأنالظمآن الذي يرد أن يرتوي بالاقتصار على التلفظ بكلمة ماء. فلا سبيل ولا كيفيةعملية لإفراد الله تعالى بالألوهية أو لتحقيق الشهادة الأولى إلا بالإيمان والعملبمقتضى الشهادة الثانية "محمد رسول الله"، أي قصر التلقي والطاعة على ما جاء بهمحمد صلى الله عليه وسلم ورفض التلقي عن غيره والطاعة لمن سواه، باعتباره المبلغالوحيد عن الله ولديه الوحي الأخير الذي لم يصبه تغيير أو تشويه أو تحريف، ففيالشهادة الأولى نبذ للأديان الوضعية والمذاهب الفلسفية والنظم الاجتماعيةالجاهليَّة؛ لأن إفراد الله بالألوهية هو رفض الخضوع لغير أمره وتنظيمه، وفيالثانية، نبذ للأديان السماوية المحرفة التي تدعي نسبتها لله سبحانه وتعالىكاليهودية والنصرانية).
ومن مقتضىشهادة "محمد رسول الله" تنبثق الشريعة الإسلامية (فالعلاقة بين العقيدة والنظم فيالمجتمع المسلم علاقة وطيدة وثيقة... ولذلك لا يوجد مجتمع مسلم بدون عقيدة التوحيدالإسلامية، ولو تغيرت عقيدة التوحيد لانتهت النظم الإسلامية، أو أصابها التغير بقدرالانحراف عن التوحيد في نفوس الأفراد.. كما أنه من الخطأ البين وصف مجتمع بأنهمسلم.. أو موحد دون أن تكون نظمه إسلامية، أي دون تطبيق الشريعة الإسلامية في شتىجوانب حياته).
وأمَّا من حيثالانسجام مع النظام الشامل للكون والحياة، (فإنَّ جميع الموجودات في هذا العالم – من أكبر الأجرام الفلكية إلى أصغر الذرات – يخضع كل منها لقانونه الخاص الذي ينبعمن ماهيته الذاتية ووجود الخاص كما أن هذا العالم المخلوق ككل وفي مجموعه يخضعأيضاً لناموس كلي يسير حسبه أيضاً.. وإلى تلك الربوبية الشاملة للكون المخلوق تشيرالآية الأولى من فاتحة الكتاب (الحمد لله رب العالمين)... فكل شيء في الكون خاضعلقاعة معينة، ويسير في نشأته ونموه وفنائه حسب هذه القاعدة، سواء فلكاً أو جبلاً أوبحراً أو حيواناً أو إنساناً، وهذا معنى قوله تعالى: (ألا له الخلق والأمر تباركالله رب العالمين)... [ومما تعنيه أيضاً] الكفالة والإصلاح والإدارة وتسيير الأموروتنظيمها والسيادة والحكم وحيازة السلطة والأمر النافذ...، والإيمان بالربوبيةيقتضي بالضرورة إفراد الله سبحانه وتعالى بالتشريع والتدبير والتنظيم في حياة البشرالفردية والاجتماعية وذلك يعني رفض أي نظام جاهلي وضرورة الاقتصار على النظامالاجتماعي الإسلامي، وموحد الربوبية هو من يرفض أن يتعامل مع الناس بغير التشريعالإلهي).
ثانياً: أنها ملزمة ولا يصح لأحد الخروج منها،قال الله تعالى: (وما كان لمؤمن ولامؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم)، وقال تعالى: (فلاوربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيتويسلموا تسليما)، وورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: "لا يؤمن أحدكم حتى يكونهواه تبعاً لما جئت به"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع وكلم مسؤول عنرعيته...".
والآيات الواردة في ذلكوالأحاديث مستفيضة؛ قال ابن القيم في تفسير قوله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتىيحكموك...) الآية: (أقسم سبحانه على نفي الإيمان عن العباد حتى يحكموا رسوله في كلما شجر بينهم من الدقيق والجليل، ولم يكتف في إيمانهم بهذا التحكم بمجرده حتى ينفيعن صدروهم الحرج والضيق بقضائه وحكمه، ولم يكتف منهم بذلك أيضاً حتى يسلموا تسليماًوينقادوا انقياداً).
وذكر الشيخ محمدبن عبد الوهاب من نواقض الإسلام: (الاعتقاد بأن غير هدي الإسلام أكمل من هديه، وأنحكم غيره أحسن من حكمه،... ومن اعتقد أنَّ بعض الناس يسعه الخروج من شريعة محمد صلىالله عليه وسلم).
ومقتضى ذلك أن تكونناسخة لما قبلها، كفيلة بإيجاد الحلول الملائمة لكل ما يجد في حياة الأُمَّةالإسلامَّية من قضايا ومشكلات.
ثالثاً: الثواب والعقاب في الشريعة الإسلامية دنيويوأخروي:
تقترن الأنظمةالبشرية بجزاء توقعه عندما يقتضي الأمر ذلك في حق من يخرج عليها وتتعدد صور ذلكالجزاء ولكنه جزاء دنيوي، أمَّا الشريعة الإسلامية فإنها (تختلف معها في أن الجزاءفيها أخروي ودنيوي، بل أن الأصل في أجزيتها هو الجزاءُ الأخروي، ولكن مقتضياتالحياة، وضرورة استقرار المجتمع، وتنظيم علاقات الأفراد على نحو واضح بين مؤثر،وضمان حقوقهم، كل ذلك دعا إلى أن يكون مع الجزاء الأخروي جزاءدنيوي...).
والأمثلة على ذلك كثيرةمن الكتاب والسنة مثل قوله تعالى بعد ذكر أحكام المواريث: ﴿تلك حدود اللهسورة النساء 13، 14. إلى عذاب مهين﴾،وفي أجزاءقطاع الطريق قال تعالى: ﴿ إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرضفسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وارجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلكلهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم﴾، ومما يترتبعلى الجزاء في الشريعة الإسلامية الخضوع لأحكامها (خضوعاً اختيارياً في السر والعلنخوفاً من عقاب الله) في حالة النهي والتحذير والطمع في الثواب في حالة الأمروالندب، إلى جانب ما يبعثه الجزاء في النفوس (من الهيبةوالتأثير).
رابعاً: الشمول والإحاطة:فما من عمل يعمله الإنسان أو قول يقوله إلا والشريعةالإسلامية قد اتخذت منه موقفاً بعينه، تأمر به أو تنهى عنه، أو تندب إليه أو تكرهه،أو تجعله من المباحات ومن هنا كانت الأخلاق والعادات والأعمال، صغيرها وكبيرها مماتعنى به الشريعة الإسلامية أشد عناية حتى تلك الأمور التي يهتدي إليها الإنسانبفطرته كالأكل والشرب والنوم واللباس تضع الشريعة لها حدوداً وترسم لها أبعاداً،وما من علاقة تسود المجتمع بين أفراده، أو المجتمع المسلم من المجتمعات الأخرى إلاوضعت الشريعة لها نظاماً وحددت لها آداباً، وما من قضية تتصل بنظام الاجتماعالإنساني، من سياسة أو اقتصاد أو إدارة إلاّ وبينت الشريعة الإسلامية فيها الرأيالصائب والموقف السديد)، قال تعالى: ﴿ ما فرطنا في الكتاب من شي﴾، وقال تعالى: ﴿ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شي﴾.
وانطلاقاً من هذا الشمول وتلك الإحاطة قسَّم بعض العلماءالعلوم إلى أقسام ..
الأولى الأحكامالمتعلقة بالدين:هذه هي الأحكام الإعتقادية، ومحل دراستها في علم الكلام أوالتوحيد.
خامساً: أنّها مبنيَّة على مصالح العباد:
قال ابن قيم الجوزية: (هذا فضل عظيم النفع جداً، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أنَّ الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإنَّ الشريعة ميناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدَّالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتَمَّ دلالة وأصدقها وهي نوره الذي أبصر به المبصرون، ,هداه الذي اهتدى به المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل، وطريقه المستقيم).
وقال العز بن عبد السلام: (والشريعة كلها مصالح، إمَّا تدرأ مفاسد أو تجلب مصالح)، والمستقرئ لأحكام الشريعة الإسلامية يخلص إلى هذه النتيجة من وجوه:
الأول: أن رسالة المصطفى صلى الله عليه وسلم بعامة جاءت رحمة للعالمين، قال تعالى: ﴿ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾.، فيدخل في ذلك ضمناً (رعاية مصالح العباد ودرء المفاسد عنهم).
الثاني: مجيء أحكام الشريعة – في جملتها – معللة بكونها تحقق مصالح الأمة وتدرأ عنهم المفاسد، كقوله تعالى: ﴿ ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب﴾، وكقوله تعالى: ﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم﴾، وكقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج"، هذه الأحكام في مجملها لم تأت في مواد محددة تنص على فعل أو ترك وإنما جاءت معللة بما به حياة النفوس وذكر الغاية من التشريع وأنه في مصلحة الأمة إما بجلب مصلحة أو دفع مفسدة في العاجل أو الآجل (لإعلام المكلفين إن تحقيق المصالح هو مقصود الشارع).
الثالث: اتسام أحكام الشريعة باليسر ورفع الحرج، ومن الأمثلة على ذلك (تشريع الرخص عند وجود مشقة في تطبيق الأحكام من ذلك إباحة النطق بكلمة الكفر عند الإكراه عليها حفظاً لمصلحة في رمضان للمسافر والمريض ونحو ذلك. ولا شك أن دفع المشقة ضرب من ضروب رعاية المصلحة ودرء المفسدة).
ومن يسر الشريعة التدرج في التشريع والتمهيد له وتخفيف بعض الأحكام بالنسخ ونحوه.
وقد توصل الفقهاء إلى وضع ضوابط فقهية تنطلق في مجملها، وتتسم تفاصيلها باليسر ورفع الحرج عن المكلفين، وخصصوا لها تباً مستقلة من أبرزها (كتاب تأسيس النظر للدبوسي الحنفي، وكتاب قواعد الأحكام في مصالح الأنام لعز الدين بن عبد السلام الشافعي، وكتاب القواعد لابن رجب الحنبلي)، (والقواعد الفقهية.. تصوير جميل للمبادئ الفقهية وضبط الفروع، وقد اكتسبت هذه القواعد صياغتها عن طريق التداول بين الفقهاء).
ومن أبرز هذه القواعد الآتي:
- اليقين لا يزول بالشك.
- المشقة تجلب التيسير.
- الضرر يزال.
- العادة محكمة.
الرابع: التفاوت في النظر إلى الأحكام وتقسيمها من حيث مقاصدها، (وجد بالاستقراء أن مصالح العباد تتعلق بأمور ضرورية أو حاجية أو تحسينية، فالأولى هي التي لا قيام لحياة الناس بدونها، وإذا فاتت حل الفساد وعمت الفوضى واختل نظام الحياة، وهذه الضرورات هي "حفظ الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل"، .. والحاجيات هي التي يحتاج إليها الناس ليعيشوا يسر وسعة، وإذا فاتتهم لم يختل نظام الحياة ولكن يلحق "المكلفين – على الجملة – الحرج والمشقة، ولكنه لا يبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة... أما التحسينات فمعناها الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنب الأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق"، ... وإذا فاتت هذه – أيضاً – فلا يختل نظام الحياة ولا يصيب الناس حرج ولكن تخرج حياتهم عن النهج الأقوم وما تستدعيه الفطر السليمة والعادات الكريمة، والشريعة جاءت لتحقيق وحفظ الضروريات والحاجيات التحسينات، وبهذا حفظت مصالحهم).
وبناء على ذلك فإن الأحكام الشرعية تتفاوت بصفة وأخرى بحسب درجة تلك المقاصد، وتسعى لتحقيقها في عامة الأمة (بدون حرج ولا مشقة، فتجمع بين مناحي مقاصدها في التكاليف والقوانين مهما تيسر الجمع، فهي ترتقي بالأمة من الأدون من نواحي تلك المقاصد إلى الأعلى بمقدار ما تسمح به الأحوال وتيسر حصولها وإلا فهي تتنازل من الأصعب إلى الذي يليه مما فيه تعليق الأهم من المقاصد)، وهذا الوجه يسهم في (دوام أحكام الشريعة للعصور والأجيال).
ومهما تشعبت آراء الفقهاء في تفاصيل المقاصد وتطبيقاتها إلا أن هناك قدراً مشتركاً – في الأعم الأغلب – فيما بينهم حول (أهمية الاعتماد على الكليات التشريعية وتحكميها في فهم النصوص الجزئية وتوجيهها، وهو نوع من رد المتشابهات إلى المحكمات، والجزئيات إلى الكيات، فكليات الشريعة ومقاصدها العامة، هي أصول قطعية لكل اجتهاد، ولكل تفكير إسلامي).
ويرى بعض الباحثين أن ما أقدم عليه علماء الأمة بعد الصدر الأول من تاريخها من (بيان علل الأحكام وغايات الإسلام مقاصد الشريعة وأهدافها، فبينوا أن لكل حكم من أحكام الإسلام وظيفة يؤديها وغاية يحققها وعلة ظاهرة أو كامنة يعمل لإيجادها، ومقصداً وهدفاً يقصده ويستهدفه لتحقيق مصلحة للإنسان أو دفع مفسدة ومضرة عنه)، إن ذلك كله وما دار في إطاره يمكن الاعتماد عليه كمنهج في فهم الشريعة الإسلامية وبخاصة ما تميز به الشاطبي في هذا المضمار، وأن ما سمي بـ(نظرية المقاصد عند الشاطبي) يمكن أن يعاد لها الاعتبار (ولابد من وضعها في المقام الأول، ثم يرتب ما عدها عليها. وهذه خطوة ضرورية لإعاد ةتشكيل العقل المسلم، ولإعادة ترتيب موازينه وأولوياته، ذلك أن من أهم مظاهر أزمة العقل المسلم: اختلال الموازين والأولويات التي وضعها الإسلام في نصابها، فوقع فيها – على مر العصور – تقديم وتأخير، وتفخيم وتقزيم، على خلاف وضعها الحق).
وفي ختام هذا يحسن ان نربط بين الشريعة الإسلامية بخصائصها ومنطلقاتها وغاياتها وبين ما قاله ابن منظور في معناها اللغوي من أن (العرب لا تسميها شريعة حتى يكون الماء عدا لا انقطاع له، ويكون ظاهراً معيناً لا يسقي بالرشاء)، فإن المعنى متحقق في الشريعة الإسلامية وهي بخصائصها التي سبق شرح مجملها تعد القمة في تاريخ الأمم والشرائع عندما أنزل الحق تبارك وتعالى على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء وسيد المرسلين قوله تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً﴾ (المائدة:3) ، وكانت حكومة الرسول صلى الله عليه وسلم النموذج الأمثل في تطبيق الشريعة، والسلطة السياسية التي تنفذاه وتشرف على تطبيقها؛ دستورها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم سارت الأمة الإسلامية منذ عهد الصحابة والسلف الصالح وحتى العصر الحاضر وإلى أن يأتي أمر الله في ظل هذه الشريعة الخالدة، (ومن الحقائق المسلمة أن الشريعة الإسلامية قد وضعت العالم الإسلامي كله على تنائي أطرافه، وتعدد أجناسه، وتنوع بيئاته الحضارية، وتجدد مشكلاته الزمنية... وأنها – بمصادرها ونصوصها وقواعدها – لم تقف يوماً من الأيام مكتوفة اليدين، أو مغلولة الرجلين، أمام وقائع الحياة المتغيرة.. وأنها ظلت القانون المقدس الممول بها تشريعاته الوضعية...)، ثم استمرت بعض تلك القوانين كأثر من آثار الاستعمار ولأسباب أخرى، منها الاعتماد على بعض التأويلات للنصوص الشريعة التي تنص على وجوب تطبيق الشريعة بما يبرر هذا الواقع، ومنها الجهل بمكانة الشريعة وشمولها وكمالها، ومنها التأثر بالثقافة الغربية والغزو الفكري ومخططات أعداء الأمة الإسلامية.
على أن هناك أسباباً أخرى تعود لما أصاب الفقه الإسلامي في بعض أطواره من (الضعف والركود والتوقف عن سيره الأول شيئاً فشيئاً، [والجنوح] إلى التقليد والتزام مذاهب معينة لا يحيد عنها ولا يميل حتى وصل الحال إلى الإفتاء بسد باب الاجتهاد).
ومما ينبغي ذكره في هذا الصدد أنه على الرغم من هذا الواقع فإن هناك جهوداً قام بها بعض الفقهاء ومجتهدي الأمة من خلال المؤلفات التي أنجزوها والتجديد الذي سلكوه.
وفي العصر الحديث ظهرت اهتمامات تمثلت في (دراسة الفقه الإسلامي دراسة مقارنة وإظهار مزاياه وخصائصه وكثرة التأليف في مباحثه وظهور المبرزين فيه الجامعين بين الثقافة القانونية والثقافة الشرعية)، وعلى الرغم مما يكتنف هذه الاهتمامات من المخاوف والمحاذير إلا أن الأمل معقود في (أن يزداد الاهتمام بالشريعة الإسلامية وفقهها حتى تعود إلى مكانتها الأولى وتسترد سيادتها القانونية، وتمد هي والفقه الإسلامي [الأمة الإسلامية] بالتشريعات اللازمة في جميع شؤونها كما كان الأمر في السابق).
وكما شهد بعض رجال الديانة النصرانية ورعاياها بفضل الشريعة الإسلامية وما تتسم به من الرحمة والعدل والإحسان والمساواة في بداية انتشار الإسلام فقد دار التاريخ دورته، وعاد المنصفون من الغربيين ليؤكدوا الشهادة ذاتها.
فأما في بداية انتشار الإسلام، و(لما بلغ الجيش الإسلامي وادي الأردن بقيادة أبي عبيدة كتب أهالي هذه البلاد المسيحيون إلى العرب يقولون: يا معشر المسلمين ! أنتم أحب إلينا من الروم وإن كانوا على ديننا، إنكم أوفى لنا وأرأف بنا، وأكف عن ظلمنا، وأحسن ولاية علينا).
وأما في العصر الحديث: (فهذا مؤتمر القانون المقارن المعقود في لاهاي سنة 1937م الذي حضره مفكرون وباحثون من الغرب ومن مختلف أنحاء العالم وشاركوا فيه، يقرر:
1- اعتبار الشريعة الإسلامية مصدراً من مصادر التشريع العام.
2- اعتبار الشريعة الإسلامية شريعة حيَّة.
3- اعتبارها قائمة بذاتها ليست مأخوذة عن غيرها).
كما أظهر كبار رجال القانون والفكر في الغرب إعجابهم بذلك، يقول (ماك برايد): (من هنا ومن هذا البلد الإسلامي [أي المملكة العربية السعودية] يجب أن تعلن حقوق الإنسان لا من غيره من البلدان، وإنه يتوجب على العلماء المسلمين أن يعلنوا هذه الحقائق المجهولة عند الرأي العام العالمي، والتي كان الجهل بها سبباً لتشويه سمة الإسلام والمسلمين والحكم الإسلامي عن طريق أعداء الإسلام والمسلمين...).
وقال آخر: (إني بصفتي مسيحياً أعلن أنه هنا في هذا البلد الإسلامي يعبد الله حقيقة، وأن أحكام القرآن في حقوق الإنسان: هي بلا شك تفوق على ميثاق حقوق الإنسان).
الموضوع : خصائص الشريعة الاسلامية المصدر : منتديات اضواء الاسلام الكاتب: atefbbs