يمكن استخلاص كثير من العبر من السيرة النبوية ومن أخلاق وسيرة الرسول (ص) ومسلكه مع زوجاته وكونه أبدا لم يمدَّ يده على عبد أو طفل أو زوجة. عن عائشة (ض) قالت: "ما ضرب رسول الله شيئاً قط، ولا امرأة ولا خادماً، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله، فينتقم لله عز وجل" رواه مسلم. وتفاديا للتكرار وبالإحالة على ما أوردناه سالفا نكتفي هنا بالتذكير بالأحكام النبوية التي تجعل الرفق مطلوبا وواجبا في كل شيء، من ذلك:
* حديث: يا عائشة إن الله رفيق يحب الرفق ويعطى على الرفق ما لا يعطى على العنف وما لا يعطى على ما سواه (صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الرفق حديث رقم: 2593)
* حديث: إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا يُنْـزَع من شيء إلا شَانَهُ ( صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الرفق حديث رقم: 2594).
* حديث: من حرَّمَ الرفق حُرِمَ الخير أو من يحَرِّمِ الرفقَ يُحْرَم الخير (صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الرفق حديث رقم: 2592).
وفي مواضع على صلة مباشرة باستعمال العنف ضد الزوجة جاءت أحاديث كثيرة، نذكر منها:
○ حديث: إذا أراد الله بأهل بيت خيرا فقههم في الدين، ووقر صغيرهم كبيرهم، ورزقهم الرفق في معيشتهم، والقصد في نفقاتهم، وبصَّرَهُم عيوبَهم فيتوبوا منها؛ وإذا أراد بهم غير ذلك تركهم هملا"، رواه الدار قطني.
○ حديث: "ما أعطي أهل بيت الرفق إلا نفعهم" رواه الطبراني.
○ حديث: "إن الله إذا أحب أهل بيت أدخل عليهم الرفق"...
○ خطبة الرسول الشهيرة في حجة الوداع : استوصوا بالنساء خيراً، فإنهن عوان عندكم، ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك، إلا أن يأتين بفاحشةٍ مبينة، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضرباً غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبتغوا عليهن سبيلاً، ألا إن لكم على نسائكم حقاً ، ولنسائكم عليكم حقاً فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون (أي يأتين بفاحشة)، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن رواه الترمذي، وقال حسن صحيح...
○ حديث :اتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهن ضرباً غير مبرح (رواه مسلم ). ويفهم منه أن الضرب كعقاب محصورٌ في الخيانة الزوجية.
وقد نقل إلينا الإمام البخاري صورة واضحة عن ذَمِّ الرسول (ص) لتعنيف النساء فقال في: باب ما يكره من ضرب النساء، وقول الله تعالى (واضربوهن) أي ضرباً غير مبرح"، ثم ساق البخاري بإسناده إلى النبي (ص) أنه قال: "لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ، ثم يجامعها في آخر اليوم". واستخلص الحافظ ابن حجر (العسقلاني) معلقاً على عنوان باب: "باب ما يكره من ضرب النساء" أن فيه إشارة إلى أن "ضربهن لا يباح مطلقاً، بل فيه ما يكره كراهة تنـزيه أو تحريم" .
وفي كل هذا تأكيد لما جاء في القرآن من آيات تدعو إلى الرفق والإحسان والحكمة والموعظة الحسنة:
* ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ سورة المؤمنون(23)، آية 96
* اُدْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ سورة النحل (16) آية125...
في بعض أسباب نزول آية النشوز وموقف الرسول من الضرب حتى بعد نزولها:
كانت الثقافة القرشية لا تستقبح ضرب النساء ولا تمنعه. لكن لما هاجر مسلمو مكة إلى المدينة المنورة، وحصل اختلاط بين ثقافتين مختلفتين، بدأت القريشيات يرفضن السلوك الخشن لأزواجهن فرحن يشتكين إلى الرسول (ص) الذي لم يثبت عنه أنه أساء يوما إلى إحدى زوجاته، فلم يتردَّد في إعلان قوله: "لا تضربوا إماء اللّه" . حديث تؤكده أم كلثوم بنت أبي بكر الصدّيق، إذ تقول: "كان الرجال نُهوا عن ضرب النساء" . هكذا جاء الطلب من النساء والنهي من الرسول (ص) . ولم يكتف الرسول بهذا النهي وإنما وضع تشريعا تتحقق به المساواة بين الجنسين وبدأ في تطبيقه. حتى أن نسوة من الأنصار (لم يألفن الضرب) رفعن الأمر إلى الرسول فحكم لبعضهن بالاقتصاص من الزوج المعتدي .
لكن، وتماما كما يحصل اليوم من تعامل أهوج مع الحقوق من قبل بعض الفئات، فقد بالغت النساء في ممارسة الحقوق وخرق الأحكام ونبذ الواجبات الزواجية والجرأة على الأزواج. وبتمرد الزوجات على أزواجهن، كاد الأمر ينقلب إلى فتنة، سيما وقد تصادف ذلك مع هزيمة المسلمين في معركة أُحُد وتحقير بعض الزوجات لأزواجهن بسبب ذلك. فكانت هذه الظروف إحدى أسباب نزول الآية 34 من سورة النساء لِتَضَعَ حدًّا للاقتصاص من الزوج المعتدي، ولكن قبل ذلك لمنع قلة الأدب والاحترام والتجرؤ من الزوجات على أزواجهن واستصغارهن إياهم. ونجد لإباحة الضرب في مثل هكذا موقف أو ظرف أكثر من تفسير:
* فالأمة كانت ما تزال ناشئة، في بدايتها، ومطوّقة بالإكراهات والأعداء من الداخل والخارج؛
* كون النفوس والعقول (سيما بالنسبة للمهاجرين) لم تكن تهيّأت بما فيه الكفاية لمثل هذه التسوية المطلقة (اقتصاص الزوجة من زوجها) التي جاءت قبل زمانها؛
* كون النساء تعاملن مع التسوية بشيء من الاندفاع والحماس الزائد، لذلك ما لبثت تداعيات التسوية أن ظهرت فأنذرت بفتنة لا تبقي ولا تدرْ، داخل البيوت وعلى مستوى المجتمع؛
* تزامُنُ هذه الوقائع مجتمعة مع هزيمة أُحُد، ومع استغلال بعض الزوجات لظروف الهزيمة وتضاؤل معنويات أزواجهن... واستغلالهن لكل ذلك من أجل الانتقاص منهم والشماتة بهم واستصغارهم وتثبيط عزائمهم.
* كون هذه الظروف اقتضت ضرورةً تجاوز كل الخلافات الداخلية (بما فيها الخلافات الزواجية) ورأب كل خلاف وتضميد الجراح ولَمِّ الشتات وحفظ وحدة وسلامة الأمة.
فهذه إذن أهم السياقات التي نزلت فيها الآية التي تجعل الضرب (بكل التحفظات الواردة عليه والشروط المقيدة له كما أسلفنا بعضا منها) عقابا للنشوز. ومع ذلك فهي لا تجعله الحل الأول وإنما، كالكي، آخر علاج، وفقط حينما لا تنفع البدائل المقترحة (وعظ، هجر، بعث الحكمين...)
توفيق الرسول الكريم بين ضرورة التأديب ومنع الضرب: فمراعاة لهذه الظروف والتداعيات واعتبارا لواجب دفع الفتنة والشقاق وحفظ النظام، اَتُّخِذَت تدابير عقابية إذن تقي الأمة شرور الانقسام وتبقي للمرأة حقوقها كاملة وتنأى بها عن المعاملات المهينة وتمنع الزواجت من التقليل من أزواجهن والذهاب بهيبتهم أمام أبنائهم وأمام المجتمع (وهم أفراد الجيش المعول عليه في حماية الثغور وفي الفتوحات). لذلك سيؤكد الرسول (ص) على حسن معاملة الفتاة والمرأة والزوجة، فيعقب على عمر ابن الخطاب الذي لم يكن من الموافقين على فكرة الاقتصاص ولا على منع ضرب النساء، وذلك لما جاء عمر إلى رسول الله (ص) فقال ذَئِرَتْ (أي تمرَّدت) النساء على أزواجهن فرخص في ضربهن فطاف بآل رسول الله (ص) نساء كثير يشكون أزواجهن فقال النبي (ص): "لقد طاف بآل محمد نساء كثير يشكون أزواجهن ليس أولئك (أي من يضربون نساءهم) بخياركم"، وفي رواية أخرى: "يظل أحدكم يضرب امرأته ضرب العبد ثم يظل يعانقها ولا يستحي" (طبقات ابن سعد ج8 ص 205).
وفي حالة استحالة اتقاء الضرب، بالنظر لما وقر في أذهان الناس وما رسخ في سلوكياتهم، فإنه يجب تحري عدم الإضرار أو التعسف أو الإهانة أو المس بالكرامة. لذلك جاءت أحاديث كثيرة تنهى عن كل سلوك عنيف حتى في حالات الغضب القصوى أو الضرورة الملجئة، تضع ضوابط وحدود لرد الفعل العنيف، وهو غير الضرب المؤذي. من ذلك الحديث الذي استوصى الرسول (ص) فيه خيراً بالنساء، في خطبة حجة الوداع الشهيرة فقال: "ألا واستوصوا بالنساء خيراً فإنهن عوانٌ عندكم (أى أسيرات) استحللتم فروجهن بكلمة الله وسنة رسوله، لا تضربوا الوجه ولا تقبحوه" . إلى جانب أحاديث أخرى حذرت من الإساءة إلى النساء أو إهانتهن أو إيذائهن أكُنَّ زوجات أم بنات أم أخوات. كما أَفْـرَدَ الزوجات أحاديث خاصة، أَتَعَلَّقَ الأمر بحسن المعاملة أم بمنع التعنيف... منها أحاديث أوردناها سالفا ونكتفي بالإحالة عليها وعلى أحاديث أخرى كثيرة .
خامسا: الخلط بين العادات والتقاليد وتعاليم الإسلام
الفكر التقليداني المسيطر: مرة أخرى نؤكد على ضرورة التمييز بين الطاعة العمياء التي تفرضها الأعراف والتقاليد على الزوجة، فتعتبرها ناشزا حتى لو كان أمر الزوج الموجب للطاعة مخالفا للشرع وتُوَقِّع للزوج على بياض من أجل إرغام الزوجة بأية وسيلة وتسمح له باستعمال العنف بدون حدود، وبين واجب احترام الالتزامات التي تقع على الزوجين حفظا لحقوق الزوج الآخر وضمانا لاستقرار الأسرة. فالنشوز الموجب للتأديب لا يكون إلا في معصية الزوجة فيما يجب عليها.
كما نذكر بكون الأعراف هي التي تبيح الضرب والشرع ينأى بالناس عنه. وتأثرا بالأعراف والتقاليد، تتخذ بعض الحركات والأصوليات مواقف متشددة من قضايا اجتماعية أخرى كبرى مثل قضية المرأة وموقعها في السُّلم الاجتماعي. ولا يخفى ما لمثل هكذا مواقف من أثر على التنمية وعلى إشراك المرأة في المشاريع التنموية وإسهامها في الحياة العامة. كما لا يخفى ما تحمله هذه المواقف من تعسّف على النص الشرعي وإخراج له عن فلسفته ومقاصده في مسألة كان الإسلام فيها السباق إلى القطع مع الممارسات والذهنيات التي كانت تحبس المرأة في أدنى درجة في مجتمع الجزيرة العربية والمجتمعات المجاورة لها ولدى الشعوب التي دخلها الإسلام.
وبَيَّنَّا أيضا أن كثيرا من الناس (مثقفين وغيرهم) يعتقدون جازمين أنه ما دام النص لم يبَيِّنْ من يحق له استعمال الضرب، وبما أن الزوج هو المخوَّل صلاحية التأديب كما رسخ في الأعراف، فهو السيد المطلق في الضرب ولا رقيب عليه في ذلك ولو تعسف وتجاوز ولو هدد حياة الزوجة جدياًّ.
غاية ما في الأمر أن الإسلام فرض قواعد وأحكاما وأوامر ونواهي، وألزم الناس بطاعتها، والرجل والمرأة، والزوج والزوجة، كلاهما مأمور بالإخبات، بحيث إن صدر من أحدهما معصية للشرع (وليس للفرد) وجبت محاسبته. لكن الحساب محصور في ولي الأمر (المؤسسة أو السلطة ذات الصلة) الذي يملك وحده صلاحية معاقبة المذنب منهما وإقامة الحدِّ أو التعزير عليه. لكن المؤسف أن الأعراف غَلََبََتْ على أحكام الشرع فانتشر الاعتقاد الراسخ لدى الناس بأن الزوج يملك صلاحية هذه المحاسبة والمعاقبة وأنه يستطيع توقيع العقاب من تلقاء نفسه ومن دون رقيب عليه في ذلك...
وبهذا يتناسى الناس أن المجتمع بكامله -وليس الزوج وحسب- لا يملك صلاحية تنفيذ الأحكام إلا من خلال القضاء وآليّاته المبيّنة شرعا. لكن بما أن الأعراف تكرس ضرب الزوج لزوجته بل والاعتداء عليها وتشَجِّعُ ذلك، فإن الفقه المتشبع بهذه الأعراف والذهنيات يجتهد في لـََيِِّّ عنق آية النشوز لاتخاذها كحجة على الجواز ولإخلاء الضمير من كل محاسبة... كما لا يتوانى الناس (العامي منهم والجاهل كما العارف) عن إشهارها (معزولة) في وجه كل من يتحفظ على الممارسات العنيفة.
ووصل الحال أن المرأة التي ترفض ضرب الزوج لزوجته هي نفسها تطلب من ابنها، وكل رجال أسرتها الذين لها حق نصحهم أو أمرهم، أن يضرب زوجته ويهينها إذا لم تأتمر بأوامره دون نقاش ولم تكن طوع يديه.
وإن كل هذا يدفعنا للتساؤل عن مكمن الخلل أهو الشرع الإسلامي أن الأعراف؟
ثم إن كلَّ من يثير مسألة ضرب الزوج لزوجته وعموما الرجل للمرأة يقرن الظاهرة بالإسلام وكأن المرأة المسلمة وحدها تتعرض للتعنيف وكأن الزوج أو الرجل المسلم وحده من يفعل ذلك. وهنا نؤكد بصرامة أن العنف سلوك متخلف ووحشي وأن الشرع الإسلامي كان أول شرع يدين العنف ضد المرأة كما أثبتنا بالحجج والأدلة والآيات والأحاديث. وأوردنا شهادة من غير المسلمين تستغرب من كون الديانة الوحيدة التي أدانت ومنعت العنف ضد المرأة هي وحدها التي تتهم بأنها تكرسه. وأقل ما يمكن أن يقال عن هذا أنه مكابرة !
الموضوع : موقف الرسول الصريح من ضرب النساء المصدر : منتديات اضواء الاسلام الكاتب: atefbbs