الضرب المسموح به: حدوده، حجمه وضماناته
فالجزاء البدني المسموح به هو ضرب محدد في النوع والقدر وفي الموضع وفي المكان... وما أبيح إلا للمصلحة ودرء مفسدة أكبر، بما يجعله كدواء ينبغي مراعاة وقته، ونوعه، وكيفيته، ومقداره، وقابلية المحل له. وهو ما يستفاد من مقابلة آية النشوز بآيات أخرى وبأحاديث كثيرة، منها ما هو مباشر وصريح:
أ- الضرب المسموح به: مجرد تعبير عن الغضب (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ)
بما أن أفضل تفسير للقرآن هو القرآن نفسه، فلنقابل آية النشوز مع آية أخرى عرضت لضرب الزوجة "الناشز" وتَحِلة يمين سيدنا أيوب عليه السلام فقد قال الله عز وجل: "وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ" ( سورة ص، (38)، آية 44)
» وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا»: في المجمع اللغوي: الضِغْثُ هو ملء الكف من الشجرة والحشيش والشماريخ ونحو ذلك. وقال القرطبي الضغث عيدانٌ رطبةً، أو ما يجمع من شيء مثل حزمة الرطبة، بما لا يتجاوز ملء الكف من الشجر أو الحشيش والشماريخ ونحو ذلك مما قام على ساق.
و في سياق الآية تلويح إلى ذلك و إنما طوي ذكر المرأة وسبب الحلف تأدبا ورعاية لجانبه. ذلك أن أيوب (س) حلف على امرأته لأمر أو فعل أو قول أنكره عليها، لئن عُوفِيَ ليضربنَّها مائة جلدة فجاءه الأمر الإلهي أن "وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا" بعدد ما حلفت به «فاضرب به» (ولم يقل "اضرب به زوجتك) وإنما اضرب به دفعة واحدة، فإنك إذا فعلت ذلك، زال الغضب وبَرَّتْ يَمِينُكَ «وَلا تَحْنَثْ» أي ولا تحنث في يمينك .
وعلى أية حال وحتى من أعطى من الفقهاء والمفسرين للزوج حق ممارسة التأديب، فقد اشترط وبصرامة كبيرة ألا يكون ضربا قاسيا مبرحا. وننقل هنا أقوال بعض المفسرين للاستئناس: قال الطبري: صفة الضرب التي أباح الله لزوج الناشز أن يضربها، الضرب غير المبرح. وقال ابن كثير: "وقول الله عز وجل: (واضْرِبُوهُنَّ) أي إذا لم يرتدعن بالموعظة ولا بالهجران فلكم أن تضربوهن ضرباً غير مبرح، وفي صحيح مسلم عن جابر أن النبي (ص) قال: «واتقوا الله في النساء فإنهن عندكم عوان ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه فإن فعلن فاضربوهن ضرباً غير مبرح» وكذا قال ابن عباس وغير واحد: تهجرها في المضجع فإن أقبلت وإلا فقد أذن الله لك أن تضربها ضرباً غير مبرح ولا تكسر لها عظماً. قال الحسن البصري: يعني غير مؤثر. وقال الفقهاء: هو أن لا يكسر فيها عضواً ولا يؤثر فيها شيئا".
وقال القرطبي: أمر الله أن يبدأ النساء بالموعظة أولا ثم بالهجر، فإن لم ينفعا فالضرب، فإنه هو الذي يصلحها له ويحملها على توفية حقه. والضرب في الآية هو ضرب الأدب غير المبرح، وهو الذي لا يكسر عظماً ولا يشين جارحة كاللكزة ونحوها، فإن المقصود منه الصلاح لا غير.
\
ب- الضرب، المجاز ضرورة واستثناء، استقبحه الحديث الشريف
فقد جاء في الآثار أن رجلا سأل: يا رسول الله (ص) ما حق زوجة أحدنا عليه قال: "أن تطعمها إذ طعمت وتكسوها إذا اكتسيت أو اكتسبت ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت . وفي حديث آخر يضيف الرسول (ص) مستغربا وعاتبا: "...ولا تهجر إلا في البيت، كيف و قد أفضى بعضكم إلى بعض إلا بما حل عليهن" .
بل يصل الاستغراب والاستقباح للضرب ذروته في حديث آخر شهير جاء فيه: "يظل أحدكم يضرب امرأته ضرب العبد ثم يظل يعانقها ولا يستحي" (طبقات ابن سعد ج8 ص 205)، استنكار مماثل في الحديث الذي رواه الإمام البخاري بإسناده إلى النبي (ص) أنه قال: "لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ، ثم يجامعها في آخر اليوم".
7- من يحق له إيقاع الجزاء ؟
أَمَرَ الشرع الزوج بضبط أعصابه والتريُّث، وأمر المجتمع والمؤسسات بابتغاء الحكمة في تقويم الزوجة الناشز، تفاديا للطلاق... وما أبيحت التدابير الاحترازية (البدنية والمعنوية) إلا لدفع مفسدة كبرى بضرر أقل. لكن آية النشوز (واللاتِي تَخافونَ نُشوزَهنَّ فَعِظوهنَّ واهجُروهنَّ في المضاجعِ واضرِبُوهنَّ). هذه تُجْتَزَأ عن سياقاتها المختلفة التي نوَّهنا بها أعلاه ولا يُشْهَر منها إلا الضرب، كما لو جاءت بتوقيع على بياض لصالح الزوج ليمارس الضرب كما يحلو له لإشباع ساديته (تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا سورة الأنعام (6) آية91)... فآية النشوز الذائعة الصيت تُشهَرُ بمناسبة وبغير مناسبة، حتى أنها تَحْجُبُ وتُنْسِي الناسَ كلَّ الآيات والأحكام الكثيرة الضامنة للعدل والمساواة والكرامة والحقوق (مَثَلُهَا في ذلك كمثل آية القوامة... وسواها).
لكن الذي لا يُلْتَفَتُ إليه هو كون الآية لم تُشِرْ من قريب أو بعيد إلى أن الذي يجوز له ممارسة الضرب كعقاب للنشوز هو الزوج نفسه. بل يمكن أن يكون القاضي أو ولي الأمر أو أية هيأة أخرى هي التي تنفذ العقوبة درءً للنشوز وتفاديا للطلاق وهدم الأسرة. ومعلوم أن الضرب لم تُبِحْهُ الشريعة إلا في أضيق الحدود. وفي كل الحالات التي أبيح فيها الضرب لم يكن المعرض له الزوجة أو المرأة وحدها، بل الرجل أيضا... وإن آيات وأحاديث عدة وحدت العقاب بين الرجل والمرأة على حد سواء (كحد الزنى أو شرب الخمر) لكن لا أحد يقيم مقابلة بين هذه الآية وتلك...
هل الزوج يملك حق إيقاع العقاب بنفسه؟
يعتقد الكثيرون أنه ما دام النص لم يبين من يحق له استعمال الضرب، وبما أن الزوج هو المخوَّل صلاحية التأديب كما رسخ في الأعراف، فهو السيد المطلق في الضرب ولا رقيب عليه في ذلك. وهذا يتنافى مع فلسفة الشرع على أكثر من مستوى:
* أولهما أن القرآن تحاشى التفاصيل تفاديا للتضييق على الناس وترك لكل مجتمع صلاحية تحديد السلطات والمؤسسات التي تقوم على ذلك، تماما كما فعل في أمور أكثر خطورة وتهم المصالح العليا السياسية والاقتصادية والاجتماعية للدولة (مثل مؤسسات الشورى ؛ والقصاص ؛ وإنفاذ الحدود واللعان أو الخيانة الزوجية ...). وبِجَمْعِ الآيةِ أكثرَ من تدبير تكون قد أومأت إلى أكثر من مؤسسة: فالوعظ من الزوج وغيره؛ وهجر المضجع لا يكون إلا من الزوج؛ والضرب من الجهات والمؤسسات المختصة؛ والوساطة من الحكمين وسواهما... وهكذا.
* وثانيهما أن الشرع لا يقبل بأي حال من الأحوال بالسلطة المطلقة ولا بالاستبداد. فكيف يمكن لشرع هذا منطقه أن يمنح الزوج سلطة لا حدود لها على الزوجة ولا يقيم عليه أي رقيب؟
* وثالثها أن الشرع جاء ببدائل عدة إَّذِا استعملت بحكمة، لم تبق من حاجة لاستعمال القوة ولم تبق من حاجة للتهذيب أصلا.
* ورابعها أن الإسلام لا يقر أي فعل اسمه "أقوِّم زوجتي بالضرب والعنف"، أكان للنشوز أو سرقة، أو حتى لزنى... أو سوى ذلك، وأيا كان نوع العقاب، وعظاً، هجراناً أو ضرباً.... بل حتى لو صدر من الزوجة عمل شائنٌ أو حتى مُجرَّمٌ (سرقة، زنى، اعتداء...)، فالزوج لا حق له ولا صلاحية كي يقيم عليها الحد أو التعزير بنفسه. ويكفي في هذا الصدد الرجوع للآيات المتعلقة باللعان والقذف والزنى... للتعرف على إجراءات إقامة الحد وعلى من يحق له القيام به. بل إن مجرد اتهام الزوج لزوجته بالباطل يعرضه لحد القذف (وعقوبته الجلد)، فأحرى توقيع العقاب عليها من تلقاء نفسه... كما أن ملاعنته لها لا يمكن أن تتم إلا أمام ولي الأمر (القاضي)... وهذا الأخير وحده من يملك صلاحية إيقاع الجزاء.
غاية ما في الأمر أن الإسلام فرض قواعد وأحكاما وأوامر ونواهي، وألزم الناس بطاعتها، والرجل والمرأة، والزوج والزوجة، كلاهما مأمور بالإخبات، فإن صدر من أحدهما معصية للشرع (وليس للفرد) وجبت محاسبته.
لكن الحساب محصور في ولي الأمر الذي يملك وحده صلاحية معاقبة المذنب منهما وإقامة الحدِّ عليه. لكن المؤسف أن الأعراف غلبت على أحكام الشرع فانتشر الاعتقاد الراسخ لدى الناس بأن الزوج يملك صلاحية هذه المحاسبة والمعاقبة وأنه يستطيع توقيع العقاب من تلقاء نفسه ومن دون رقيب عليه في ذلك... فالمجتمع بكامله، وليس الزوج وحسب، لا يملك صلاحية تنفيذ الأحكام إلا من خلال القضاء وآليّاته المبيّنة شرعا.
\
5- الضرب مثل الكي آخر علاج، لا يلجأ له إلا بعد استنفاذ كافة الوسائل وأولها الوعظ والهجر واستقدام الحكمين
إن التدابير التي أقرها الشرع جاءت من أجل حماية الأسرة واستقرارها وتفادي هدمها بطلاق أو انفصال أو تفكك أو تحول الحياة الأسرية إلى معاناة بسبب سوء تصرف الزوجة (ونفس الشيء يقال عن الزوج)، وسمح من أجل ذلك باستعمال كافة الوسائل التصحيحية التقويمية (والضرب آخرها). وفي هذا لم تخرج آية النشوز عن القواعد العامة والتي نجملها في التالي:
◙ جُمْلَةُ قواعد وأحكام تقضي بأنه إذا التقت مصلحات قُدِّمت أعظمهما وإذا التقت مفسدتان وجب درأ أكبرهما. والمصلحة العليا هنا هي حفظ الحياة الأسْرية والمفسدة الأعظم هي تفكك الأسرة... تقابلهما مصلحة أصغر وهي حفظ كرامة المرأة الناشز ومفسدة أقل هي إنزال الجزاء بالناشز. إلى جانب هذين الضابطين هناك ضابط شرعي آخر يقضي بأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح والمفسدة هنا هي هدم الأسرة، لذلك فالأولوية لها.
◙ وقد دعا الشرع العقلاءَ من أسرتي الزوجين للتدخل لإصلاح ذات البين إذا لم يستطع الزوجان علاج المشكلة بنفسيهما:"وإنْ خِفْتُم شِقاقَ بَيْنِهِمَا فابْعَثُوا حَكَمًا من أهلِه وحكمًا من أهلِهَا إنْ يُريدَا إصلاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بينَهُمَا إنَّ اللهَ كانَ عليمًا خبيرًا" (سورة النساء، آية 35).
◙ كما صَانَ قداسة الزوجية من العبَث فحذَّر من صدور كلمة الطلاق حتى على سبيل الهَزْل: "ثلاثٌ جَدُّهُنَّ جَدٌّ، وهَزْلُهُنَّ جَدٌّ: النكاحُ والطلاقُ والرَّجْعةُ" (حديث شريف رواه أبو داود).
◙ أن العقوبة في الإسلام لها مقاصد أهمها تحقيق الأمن والاستقرار والأمان. وما من شك في أن تعطيلها والتهاون في تنفيذها يؤدي إلى نتائج وخيمة يمكن اختزالها في انتشار الجرائم بكافة ألوانها.
◙ بل وحتى المرأة الآثمة يجب تقويمها بالعظة وردعها بالوسائل الأخرى المتاحة قبل الوصول إلى الضرب فالوعظ والتوعية والإرشاد أولا، فإن لم تستقم فبالهجر ثانياً وكآخر تدبير بالضرب غير المبرح إذا لم ينفع سواه.
الموضوع : الضرب المسموح بيه المصدر : منتديات اضواء الاسلام الكاتب: atefbbs