الحمد لله العلي القدير والصلاة والسلام
على سيدنا محمد رسوله البشير النذير، أما بعد: فإن الذي يتتبع أحداث
التاريخ يجد أن المسلمين تعرضوا لأخطار جسيمة وأحداث أليمة وأن هذه
الأخطار وتلك الأحداث كانت تعتريهم إذا ما ابتعدوا عن دينهم وتفرقت كلمتهم
واختلفت أهواؤهم، فإذ عادوا إلى دينهم واتفقت كلمتهم وتوحدت آراؤهم نجاهم
الله من الخطر ومنحهم النصر والأمن وهيأ لهم أسباب الرخاء والسعادة.
ومن الأخطار التي تعرض لها المسلمون غارة المغول والتتار على بلادهم في القرن السادس الهجري.
من هم المغول والتتار:
المغول والتتار قبائل من الترك البدو كانوا يسكنون الجزء الشرقي من
بلاد التركستان وما يليها شرقا من بلاد الصين في العصور الوسطى، ويذكر
مؤرخوا الترك ونسابوهم أن ألنجة خان أحد ملوك الترك ولد له في الأزمنة
القديمة ولدان توأمان هما مغول خان وتتار خان وقد تفرعت منهما قبائل
المغول والتتار.
وقد عاش أولادهم في صفاء مدة طويلة ثم حدث نزاع بينهما تغلب فيه التتار
أولا وصارت لهم السيادة مدة طويلة ثم اتحدت قبائل المغول وحاربت التتار
وهزمتهم وانتزعت منهم السيادة وظل الملك متوارثا فيهم إلى عهد بيسوكا
بهادر والد جنكيز خان.
وقد ولد جنكيز خان سنة 549 هـ ولما بلغ الثالثة عشرة من عمره توفي أبوه
وانفض أكثر قبائل المغول من حوله لصغر سنه فلما بلغ مبلغ الرجال ظهرت
مواهبه السياسية والعسكرية فجمع قبائل المغول حوله وسنّ لهم قانونا يسيرون
على هديه ويحكمون بمقتضاه ووحد صفوفهم واستعان بهم على توسيع ملكه.
أسباب غزو المغول للبلاد الإسلامية:
ذكر المؤرخون أسبابا متعددة لغزو المغول للبلاد الإسلامية وقيل إن من
بين هذه الأسباب أن الخليفة الناصر لدين الله العباسي (575-622هـ) كتب إلى
جنكيز خان يستنجد به على خوارزم شاه علاء الدين محمد سلطان الدولة
الخوارزمية الذي اتجه بجيوشه إلى بغداد يريد فرض سيطرته عليها بالقوة [1].
ونحن نستيعد ذلك لأن خليفة المسلمين لا يستعين بوثني على مسلم مهما كان الأمر.
أما السبب المباشر لاجتياح المغول الوثنيين مملكة خوارزم شاه فهو طمع
والي أحد ثغورها على نهر سيحون في أموال جماعة من التجار المغول كانوا قد
جاءوا إلى هذا الثغر سنة 615هـ ومعهم أموال طائلة.
وقد تذرع الوالي للاستيلاء على أموال هؤلاء التجار باتهامهم بالتجسس
لحساب جينكيزخان وكتب إلى شاه خوارزم بذلك فأمره بقتلهم وكانوا نحو
أربعمائة كما أمره بالاستيلاء على ما معهم من التجارة وكان شيئا كثيرا
فنفذ أمر الشاه واستولى على تلك التجارة وباعها لتجار بخارى وسمرقند وقبض
ثمنها.
ولما بلغ ذلك جينكيزخان استشاط غضبا وأرسل رسولا إلى خوارزم شاه يطلب
إليه تسليم هذا الوالي ليقتص منه فارتكب خوارزم شاه غلطة أخرى وقتل رسول
خان المغول [2].
وبذلك أتاح لجنكيزخان فرصة مهاجمة أملاكه ودفعه الغرور إلى البدء
بالعدوان فجمع جيشه وهاجم حدود التركستان الغربية مما يلي مملكته، ولم يكن
على حدود بلاد المغول حامية قوية لأن جينكيزخان وجيشه كانوا في مهمة داخل
الأمبراطورية، ولم يكن على الحدود سوى عدد قليل من النساء والأطفال ومع
ذلك لم يتمكن ذلك المغرور من التغلب عليهم وعاد بخفّي حنين [3].
أدرك خوارزم شاه خطأه وأحس أنه عرَّض دولته لخطر الغزو المغولي وأتاح
لجينكيزخان الطامع في التوسع فرصة أخرى لاجتياح مملكته واستولى عليه الفزع
فأمر سكان المدن القريبة من الحدود بالجلاء عنها خوفا من بطش المغول وكانت
هذه المدن من أخصب بلاد الدولة وأكثرها حدائق وبساتين فهجرها سكانها
وتركوها قفرا موحشة ولم يدر أنه بعمله هذا قد أخلى الطريق أمام الغزاة
ومهد لهم سبيل الوصول إلى داخل مملكته.
ولما بلغ جينكيزخان خبر هجوم خوارزم شاه على أطراف أمبراطوريته عاد على
رأس جيشه مسرعا إلى حدود الدولة الخوارزمية وأعد العدة لغزوها في أواخر
سنة 616هـ وعبر نهر سيحون واجتاز الحدود بسهولة وواصل سيره نحو الغرب حتى
وصل إلى أبواب مدينة بخارى وكانت حاميتها عشرين ألفا فلم تقو على الصمود
في وجهه وولت مدبرة فدخلت جموع المغول المدينة وأسلمتها للنهب وفرّ من
أمكنه الفرار من أهلها ومن لم يتمكن من الفرار ضرب عنقه.
وقد اتخذ جينكيزخان من مساجد بخارى التي كانت عامرة بالتقى والعلم
والأدب مرابض لخيله ووصف نفسه بأنه لعنة الله سلطها على خلقه عقوبة لهم
على خطاياهم [4].
واصلت جيوش المغول سيرها نحو سمرقند في المحرم 617هـ وأنزلت بها ما نزل
ببخارى وكان خوارزم شاه معسكرا غربي نهر جيحون يستعد للدفاع عن بلاده وصد
تلك العاصفة المدمرة التي هبت عليها من الشرق فأرسل جينكيزخان عشرين ألفا
من جيشه في طلبه فلما اقتربت تلك الفرقة من معسكر خوارزم شاه فرّ نحو
الغرب يقصد نيسابور فتبعه إليها فغادرها إلى مازندران فطارت وراءه وما زال
ينتقل من مكان إلى مكان وهي في أثره حتى لجأ إلى قلعة له على جزيرة بحر
الخزر فتحصن بها هو وأتباعه وتوفي بعد ذلك بفترة قصيرة [5].
ولما رأى المغول حصانة القلعة يئسوا من اقتحامها وعادوا إلى مدينة
مازندران فاستولوا عليها ثم سقطت في أيديهم مدن الري وهمذان ومرو وغيرها
من المدن.
أما جينكيزخان فإنه أقام بمدينة سمرقند بعد فتحها وأرسل جيشا تحت إمرة
أحد أبنائه إلى مقاطعة خراسان فاستولى على جميع مدنها بسهولة ولم يتعرض
لأهلها بسوء غير أنه كان يأخذ الرجال ليسخرهم في خدمة الجيش.
ولم يمض سوى فترة قصيرة حتى بسط المغول سيطرتهم على بلاد فارس وكان جينكيزخان أرسل جيشا آخر إلى بلاد القفجاق فدانت له في أسرع وقت [6].
وتوفي جينكيزخان سنة 624 بعد أن اتسعت امبراطوريته اتساعا عظيما ولما
أحس بدنو أجله قسم إمبراطوريته بين أبنائه الأربعة والذي يعنينا منهم
تولوي خان الابن الرابع لجنكيزخان الذي خصه أبوه بحكم خراسان وما يؤمل
فتحه من ديار بكر والعراق.
المغول يطرقون أبواب العراق:
تمكن تولوي خان من بسط نفوذه على بقية الإمارات الفارسية حتى وصل إلى
حدود العراق وتوفي سنة 654هـ فخلفه ابنه هولاكوخان الذي طمع في توسيع رقعة
ملكه على حساب الدولة العباسية وأخذ يتلمس الأسباب لتحقيق غرضه فأرسل إلى
الخليفة العباسي المستعصم بالله (640-656هـ) يدعوه لمساعدته على حرب
الحشاشين [7]،
ولكن الخليفة لم يلب الطلب فاتخذها هولاكوخان ذريعة لمهاجمة بغداد وأرسل
إليه إنذارا سنة 655هـ يطلب منه هدم حصون بغداد وردم الخنادق التي حولها
وأن يسلم البلاد لابنه ويحضر لمقابلته أو يرسل من ينوب عنه فإن أجاب إلى
ذلك نال رضى خان المغول وأبقى على دولته وجيشه ورعيته وإن لم يصغ للنصح
فليستعد للحرب [8].
أعاد الخليفة رسل المغول الذين حملوا إنذار سلطانهم إليه بعد أن زودهم
بالهدايا والتحف وبعث معهم وفدا على رأسه شرف الدين بن الجوزي يحمل رده
على السلطان المغولي، فاتجه الوفد ومعه رسل المغول إلى همذان حيث كان
السلطان يعسكر هناك فلما ترجم لهولاكوخان ردّ الخليفة الذي كان ينطوي على
التهديد المشفوع بالرغبة في المسالمة أغضبه ما فيه من تهديد [9]
وحمّل رسل الخليفة إنذارا ثانيا بمهاجمة بغداد فسلم الرسل الإنذار إلى
الوزير مؤيد الدين بن العلقمي الذي سلمه بدوره إلى الخليفة فاستشاره
الخليفة فيما ينبغي أن يفعله لدرء هذا الخطر فأشار عليه الوزير بإرسال
مبلغ كبير من المال وكثير من الهدايا والتحف إلى هولاكو مع الاعتذار عما
ورد في رده عليه من عبارات التهديد والموافقة على الدعاء له في خطبة
الجمعة ونقش اسمه في السكة [10].
ونحن نشك كثيرا في الجزء الأخير من هذه المشورة إذ كيف يطلب الوزير
المسلم من الخليفة الدعاء لهولاكو على المنابر ونقش اسمه على السكة وهو
وثني باعتراف رشيد الدين نفسه الذي يذكر عنه في نفس مؤلفه ص337 أنه بنى
معابد للأصنام في مدينة (خوى) مما يجعلنا نستبعد أن يكون ذلك من بين ما
أشار به وزير الخليفة إلا إذا كان ذلك من قبيل التقية والتحايل للخروج من
المأزق بإرضاء هولاكو ليصرفه عن غزو بغداد ولو مؤقتا حتى تتهيأ للخليفة
أسباب القوة ويتمكن من الصمود له وحماية رعيته من بطشه.
وقد مال الخليفة إلى الأخذ برأي وزيره ولكن منافسي الوزير اتهموه
بممالأة المغول فعدل الخليفة عن العمل بمشورته وأرسل إليه رسالة جاء فيها:
"فقو قلبك ولا تخافن تهديد المغول ووعيدهم فإنهم رغم كونهم أرباب دولة
وأصحاب شوكة إلا أنهم لا يملكون سوى الهوس في رؤوسهم والريح في أكفهم"
فاضطرب الوزير لعدم فهم الخليفة للموقف وأيقن أن دولة العباسيين قاب قوسين
أو أدنى من الزوال [11].
اجتمع الوزير وقادة الجند وأعيان بغداد وأخذوا يعدون الجيوش للدفاع
عنها أما الخليفة فإنه أرسل هدية بسيطة مع أحد القضاة إلى هولاكو وحمله
رسالة جاء فيها: "لو غاب عن الملك فله أن يسأل المطلعين على الأحوال إذ إن
كل ملك - حتى هذا العهد - قصد أسرة بني العباس ودار السلام بغداد كانت
عاقبته وخيمة ومهما قصدهم ذووا السطوة من الملوك وأصحاب الشوكة من
السلاطين فإن بناء هذا البيت محكم للغاية وسيبقى إلى يوم القيامة.
استشاط هولاكو غضبا من رسالة الخليفة وصمم على مهاجمة بغداد.
وفي المحرم سنة 656هـ حاصر هولاكو بغداد فدافع جيش الخليفة عنها ولكنه
لم يقو على الصمود لجيش المغول فسقطت المدينة في أديهم آخر الشهر.
وقد أجمل ابن طباطبا ما نزل بأهل بغداد في قوله: "فجرى من القتل الذريع
والنهب العظيم والتمثيل البليغ ما يعظم سماعه جملة فما الظن بتفصيله".
وكان ما كان ما لست أذكره
فظن ظنا ولا تسأل عن الخبر [12]
وأصبحت بغداد التي كانت مضرب الأمثال في سعة العمران وتقدم الحضارة
قفرا موحشة وتراكمت جثث القتلى في شوارعها فغيرت رائحتها وحدث بسبب هذا
التغير وباء شديد راح ضحيته خلق كثير.
وفرّ بنفسه من أمكنه الفرار من أهل المدينة إلى بلاد الشام أما الخليفة
ومعظم أفراد أسرته فقد خرجوا إلى هولاكو ولكنه أمر بقتلهم بعد أيام ولم
يترك سوى الابن الأصغر الذي يقال إنه تزوج بعد ذلك من امرأة مغولية وأنجب
منها ولدين [13].
ويتهم كثير من المؤرخين ابن العلقمي الشيعي بتحريض هولاكو على غزو
بغداد انتقاما من العباسيين الذين أساءوا معاملة الشيعة خصوصا في الأيام
الأخيرة لحكم المستعصم عندما هاجم أهل السنة بتحريض من أبي بكر بن الخليفة
حيّ الكرخ الذي كان يسكنه الشيعة ونهبوه وقتلوا كثيرا من أهله [14]، ولكن ابن طباطبا العلوي يتنفي تلك التهمة عن ابن العلقمي مستدلا بأن هولاكو أبقاه في منصبه ولو كان خائنا ما وثق به [15].
ومع أن ابن طباطبا قد يتهم بالتحيز لأنه شيعي مثل ابن العلقمي إلا أن
حجته قد يؤيدها الواقع لأن العاعدة جرت بأن من ارتكب الخيانة من أجله هو
أول من يحذر الخائن ويفقد الثقة به ويزدريه اللهم إلا أن يقال إنه أبقاه
لينتفع بخبرته مع حذره منه ومراقبته له ومات ابن العلقمي بعد ثلاثة أشهر
فخلفه ابنه ولكنه لحق بأبيه بعد قليل.
ومهما يكن من أمر فقد كانت هذه هي نهاية الدولة العباسية بعد أن حكمت
معظم بلاد العالم الإسلامي خمسة قرون وربع قرن تقريبا وازدهرت في عصرها
الحضارة الإسلامية ازدهارا ظل حتى اليوم مضرب الأمثال في الشرق والغرب.
المماليك يحمون البلاد الإسلامية من غارات المغول:
أرسل هولاكو بعد استيلائه على بغداد كتائب من جيشه استولت على بقية مدن
العراق ثم اتجه على رأس جيشه لفتح بلاد الشام وكانت مقسمة إلى إمارات
يحكمها أمراء من الأيوبيين وحاصر مدينة حلب وفتحها سنة 657هـ وأباحها
لجنده سبعة أيام يقتلون وينهبون أما القلعة فإنها قاومت أربعين يوما وأسر
المغول كثيرا من مهرة الصناع ونقلوهم إلى عاصمة ملكهم لينتفعوا بفنهم
ويستفيدوا من خبرتهم [16].
ثم اتجه هولاكو على رأس جيشه إلى مدينة حارم الواقعة في الجنوب الغربي
لمدينة حلب وحاصرها وطلب من أهلها تسليمها فأبوا أن يسلموها لغير فخر
الدين والي قلعة حلب فاستدعاه هولاكو وسلموها إليه ولكن هولاكو غضب من ذلك
وأمر بقتلهم فقتلوا جميعا وسبيت نساؤهم [17].
ولما سمع أهل دمشق بما حلّ بإخوانهم من أهل حلب وحارم أرسلوا وفدا من
الأعيان إلى هولاكو يعلنون الخضوع والولاء وتسليم المدينة فأمنهم على
حياتهم ثم اضطر بعد ذلك إلى العودة إلى فارس حيث بلغه موت أخيه وغادر
الشام في جمادى الآخرة سنة 658هـ وترك جيشه تحت قيادة الأمير كيتوبوغا
نويان ليحمي بلاد الشام ويتم فتح ما بقي من مدنها ثم يتجه إلى مصر.
وكان يحكم مصر إذ ذاك السلطان المنصور علي بن معز الدين أيبك أول
سلاطين دولة المماليك البحرية وكان المنصور علي في الخامسة عشرة من عمره
فجمع نائب السلطنة الأمير سيف الدين قطز مجلسا من الأمراء والعلماء وأعيان
الدولة في أواخر سنة 657هـ للنظر في أمر السلطنة وجمع المال اللازم
للتجهيز لصد تيار المغول عن مصر واتفقت الكلمة على خلع المنصور علي لصغر
سنه وتولية سيف الدين قطز السلطنة والاستعداد لصد موجة المغول عن مصر [18].
وكان الملك الناصر يوسف الأيوبي صاحب حلب قد أرسل إلى مصر الصاحب كمال
الدين المعروف بابن العديم يستنجد بها لصد تيار المغول المدمر فوصل إليها
في أواخر أيام المنصور علي وحضر المجلس الذي قرر عزله ولما استقر لسيف
الدين قطز ردّ على رسالة الملك الناصر بأنه سيصل إلى الشام على جناح
السرعة لنجدته وعاد ابن العديم يحمل رد السلطان المظفر قطز [19].
أخذ السلطان يجمع الرجال والأموال والسلاح ويستعد لصد المغول وأدرك أن
مهمته على جانب كبير من الخطورة فالشعب الذي سيواجه به المغول قد استولت
عليه الرهبة واستبد به الخوف من هول ما سمعه عن فظائع المغول ووحشيتهم
وسفكهم للدماء وتخريبهم للديار فضعف روحه المعنوي عن الجرأة على الوقوف في
مهب هذا الإعصار المهلك.
ولم يوهن من عزم قطز أو يضعف من تصميمه على الخروج لمنازلة المغول ما
سمعه من أقوال المرجفين ولم يأبه بما احتج به الداعون إلى الانتظار داخل
الحدود المصرية حتى يدخل إليها المغول ونادى بالنفير العام للجهاد في سبيل
الله ودرب المتطوعين على فنون القتال في وقت قصير جدا ولم يكد ينتهي من
مهمته حتى اقترب المغول بقيادة كيوبوغانيان من حدود مصر [20].
موقعة عين جالوت الفاصلة:
اتجه السلطان قطز على رأس جيش كثير العدد إلى بلاد الشام في أوائل
رمضان سنة 658هـ وكانت الخطة التي رسمها هي أن يقابل المغول في أرض الشام
وألا ينتظر قدومهم إلى مصر وكان يهدف من وراء ذلك إلى أمرين:
الأول: انتهاز فرصة البدء بالقتال التي كان المغول يحرصون على انتهازها أولا ليضعفوا الروح المعنوي في نفوس أعدائهم.
الثاني: لقاء المغول خارج أرض مصر حتى لا تكون ميدانا للحروب وعرضة للتدمير والتخريب.
وقد أرسل السلطان أمام قواته طليعة من الفرسان بقيادة ركن الدين بيبرس وعند بلدة الصالحية [21] انضمت الكتائب الشامية التي كانت قد جاءت إلى مصر فارة من وجه المغول إلى الجيوش المصرية.
وصلت طلائع الجيوش المصرية إلى غزة وأرغمت المغول على التخلي عنها
ودخلها الأمير بيبرس على رأس فرسانه، ولم يكن المغول يتوقعون أن يصل
المصريون إليهم بهذه السرعة فلما رأوا الجحافل الإسلامية قد ملأت السهول
والأودية اضطروا إلى إخلاء جنوب الشام وأشار بعض ضباطهم على قائدهم
كيتوبوغا نويان بطلب النجدة من السلطان هولاكو ولكنه اغتر بقوته وخدع
بانتصاراته السابقة ولم يعمل بمشورتهم.
سارت الجيوش الإسلامية من غزة متجهة إلى الشمال ومحاذية ساحل البحر
الأبيض ومرت بيافا وقيسارية إلى جبل الكرمل جنوب حيفا وعند قرية ((عين
جالوت)) الواقعة بين بيسان ونابلس دارت المعركة الفاصلة بين الجيش
الإسلامي وجيش المغول في 25 من رمضان سنة 658هـ.
بدأت المعركة بهجوم عنيف من المغول فتراجعت ميْسَرَة الجيش الإسلامي
وإذا بنداء يدوّي في ساحة المعركة ((وا إسلاماه وا إسلاماه وا إسلاماه))
فاتجهت الأنظار إلى مصدر الصوت فإذا المنادي هو السلطان نفسه فالتهب حماس
الجيش وعادت الميسرة إلى مكانها الأول وحمل الجيش الإسلامي حملة صادقة على
جيش المغول حتى هزمهم هزيمة ساحقة ومزقهم شرّ ممزق وخرّ قائدهم كيتوبوغا
صريعا في الميدان واعتصمت طائفة منهم بالتل المجاور لمكان الموقعة فأحدقت
بهم العساكر المسلمة وصابروهم على القتال حتى قتلوا معظمهم وفرّ الباقون
لا يلوون على شيء وقتل الأهالي الموتورون من المغول من وقع في أيديهم من
هؤلاء الفارين [22].
وبعد انتهاء الموقعة اتجه السلطان قطز إلى دمشق فقوبل بحفاوة بالغة من
أهلها لأنه صدّ هذه الموجة العاتية التي اجتاحت بلادهم وأنزلت بهم صنوف
البلايا وقد أمر السلطان بشنق الذين تعاونوا مع المغول وعيّن حاكما على
دمشق من قبله [23].
أما بيبرس فإنه تعقب المنهزمين من المغول حتى كاد أن يلحق بهم على
مقربة من مدينة حلب ولكنهم أطلقوا من كان في أيجديهم من الأسرى وتركوا
أولادهم وأسرعوا خفافا حتى لا يلحق بهم فتخطف الناس أولادهم ودانت حلب
بالطاعة لسلطان مصر.
نتيجة الموقعة:
لو قدر للمغول أن ينتصروا في موقعة ((عين جالوت)) لانسابوا في مصر
كالسيل الجارف ولامتدت موجتهم إلى السودان وبلاد المغرب وعبرت إلى الأندلس
واجتاحت أوربا وقضت على الحضارة الإسلامية والمسيحية على السواء لذلك
تعتبر هذه الموقعة من أهم المواقع الفاصلة في التاريخ لأنها أنقذت العالم
الإسلامي من شر مستطير وأطفأت هذه الصاعقة المهلكة التي كادت أن تقضي على
حضارة العالم ومدنيته.
علاقة المغول بالمماليك بعد موقعة عين جالوت:
كانت علاقة المغول بالمماليك بعد موقعة عين جالوت عدائية تارة وودية
تارة أخرى وكان أشد خطر هددت به مصر من جانب المغول في عهد سلطانهم تيمور
لنك الذي نظم جموع المغول واتجه على رأسها نحو الغرب وأعاد سيطرة المغول
على بغداد 795هـ.
وفي 803هـ انقض على بلاد الشام انقضاض الصاعقة واستباح مدينة حلب ثلاثة
أيام وقتل من سكانها نحو عشرين ألفا وخرّب مساجدها ثم اجتاح مدن حماه وحمص
وبعلبك وعاث فيها فسادا.
وصلت أخبار هذه الطائفة المغولية المدمرة إلى القاهرة فخرج السلطان
الناصر فرج بن برقوق منها على رأس جيشه متجها نحو الشام ووصل إلى دمشق في
جمادى الأولى من السنة نفسها واشتبك الجيش الإسلامي مع جيش المغول في
معارك حزئية ثبت فيها الجيش الإسلامي أمام هجمات المغول الشديدة وبرهن على
مقدرته الحربية.
ثم بدأت مفاروضات الصلح بين الطرفين غير أن السلطان فرج اضطر إلى
مغادرة الشام لإحباط مؤامرة في مصر دبرت لخلعه فرأى علماء دمشق وفقهاؤها
ومعهم ابن خلدون المؤرخ العربي المشهور رأوا أنه لامناص من التماس الأمان
والصلح مع تيمور لنك فتظاهر بإجابة ملتمسهم ولكنه غدر بهم وأسلم المدينة
للنيران [24].
وبعد أن عاد الناصر فرج إلى القاهرة أرسل رسالة شديدة اللهجة إلى إلى
تيمور لنك يخبره فيها أنه عائد إلى الشام ليطرده منها وأنه لم يترك
الميدان خوفا منه ولا ضعفا عن منازلته ولكن أمورا داخلية اضطرته إلى
الرجوع إلى عاصمة ملكه وأنه سوف يعود إلى ميدان القتال بمجرد انتهاء مهمته
في القاهرة.
وقد أشعلت هذه الرسالة نار الحقد في نفس تيمور لنك فصمم على الانتقام.
ولكنه غادر الشام قبل أن ينفذ ما صمم عليه، ولا يستبعد المستشرق
الألماني ((بروكلمان)) أن يكون تيمورلنك قد تذكر بطولة جيش مصر في مقاومة
جيش هولاكو وسحقه فأراد أن لا يعرض جيشه لما تعرض له جيش المغول على عهد
هولاكو [25].
وقبل أن يغادر تيمورلنك دمشق نقل صفوة علمائها ونخبة من صناعها وأهل
الفن فيها إلى عاصمته ((سمرقند)) فبدأت الصناعات الدقيقة والفنون الجميلة
تزدهر هناك وانحطت الصناعة في دمشق، وندرت الفنون الجميلة.
ولم يقدر لتيمورلنك أن يعود إلى بلاد الشام مرة أخرى فقد أمضى العامين
التاليين في غزو آسيا الصغرى وتمكن من هزيمة السلطان العثماني با يزيد
الأول وأسره وشغل بذلك عن مهاجمة الشام ولم تمهله المنية حتى يحقق هذه
الأمنية حيث توفي سنة 807هـ وبعد موته ضعف جانب المغول ولم يعد يخشى على
البلاد الإسلامية منهم بل هدى الله سبحانه وتعالى الأجيال التالية منهم
إلى الإسلام وجعلهم أنصارا له.
وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ.
الموضوع : المغول المصدر : منتديات اضواء الاسلام الكاتب: مهـ مع القرآن ـاجر توقيع العضو/ه :مهـ مع القرآن ـاجر |
|